رُؤيَــةٌ أُخْــرَى لِآيَــةِ الظِّــلّ

بسم الله الرحمن الرحيم

{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)  } [الفرقان]

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

مقدمــة :

سبق لي أن دونتُ رؤيةً للآيةِ الكريمةِ المتعلقة بالظل وبمدّ الظل في مبحث سابق ، وقد توصلنا فيه لرؤيةٍ ومفهومٍ آخر لهذه الآية  ، وقلنا أن الظل قد يشير إلى أمرين أولهما هو الليل ، فهو ظل ممتد لنصف الكرة الأرضية المضيء ويشكل ظلاً للنصف الآخر ، وقلنا أنه من نعم الله تعالى على خلقه فسكون هذا الظل يعني توقف الكرة الأرضية عن الدوران وبالتالي سرمدية الليل والنهار وفساد الحياة على الأرض  ، وقلنا أيضاً أن في هذه الآية دلالة على كروية الأرض ودورانها ، وقلنا أن الكسوف هو صورة أخرى من صور الظل الممتد ، فهو يغطي مساحات كبيرة من الأرض لوقت من الزمن فما أن تتحرك الأجرام وتدور الأفلاك حتى تنقشع هذه الظاهرة المخيفة ، ولو أنها سكنت فاستمرت لأفسدت الحياة في الموضع الذي تغطيه وكذلك بقية أجزاء الأرض.

إلا أن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد فبقي الإشكال في نفسي من الظلال التي نعرف ، أعني ظلال الأشياء الناتجة من أشعة الشمس فكيف يمكن فهم هذه الظاهرة الكونية في ضوء هذه الآية العظيمة ؟؟ وكيف يحسن الإسقاط بلا خلل في الفهم ولا إشكال؟.

فالله تعالى يقول (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) فعندما نتحدث عن ظلال الأشياء في النهار فليس الأمر مدٌّ كله طيلة النهار، بل من شروق الشمس يبدأ الظل في أصله ممدوداً ويتقلص شيئا فشيئاً حتى وقت الزوال ، وبعد الزوال يبدأ في الامتداد من بعد الزوال وحتى غروب الشمس ، وبذلك فالمدُّ في حقيقته مقتصر على نصف (مُدة الظل) وهي ما بعد الزوال أما فيما قبل الفجر لا يعد مداً بل تقلصاً.

فكيف يمكن وصف الظل في فترة تقلصه بأنه امتداد ؟؟ وكيف يمكن الجمع بين المرحلتين ؟؟ وهل يمكن الوصول لفهمٍ آخر للآية يزيل الإشكال ؟؟ ، وهذا ما سنبدأ في بيانه مستعينين بالله جل وعلا سائلينه تعالى التسديد.

معنى مرتكز على مفهوم المدّ والإمتداد :

إن الجذر (م د د) يحمل مفهومين رئيسيين متعلقين بهذه الآية ، الأول (مــدَّ) متعلق بالانتشار والاتساع المكاني ، والآخر (مـــدَّ) بالتحديد والتأجيل الزمني ، وهذا من اتساع الدلالات اللفظية لمفردات اللغة العربية التي أدت إلى اتساع المعاني في كتاب الله ، وبرغم ما في اللغة العربية من اتساع ودلالات متعددة للفظة فلا يستطيع مخلوقٌ مهما أوتي من مهارة وعلم أن يحيط بكل ما يريد بيانه في حروف معدودة بتوظيف أوجه المعاني للمفردة بما يحقق ما يرغب في بيانه.

فكان لبُّ ما وصلتُ إليه أنه تعالى يقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي جعله محدوداً بمدة من الزمن ، وهذا يستقيم مع حال الظل من الشروق إلى الزوال حيث يبدأ في أطول ما يكون من أحواله ثم يتقلص في مدة معلومة من الزمن حتى يكون عند التعامد في أقل حالاته ، وبعد ذلك تتحول الحالة إلى امتداد مكاني واتساع كلما اقتربت الشمس من الغروب حتى يصل لأطول مدىً عند بداية الغياب فيصبح المد في الآية الكريمة متعلقاً بالزمن والمدة التي حددها الخالق جل وعلا للظل من وقت الشروق إلى الزوال، ويشير أيضاً الامتداد والاستطالة المكانية التي نلحظها من الزوال وحتى الغروب.

وبذلك يصبح التركيب اللغوي والبلاغي للآية الكريمة والآية التالية لها متسقاً محتملاً كافة الوجوه الممكنة ، فهو ممكنُ الانطباقِ على حالة الكسوف وكذلك على الليل كظل ممتد ، وعلى حالة ظلال الأشياء في النهار ، وتحمل دلالة تشير إلى مسألة دوران الأرض وكرويتها ، وما يتعلق بهذه السنن الكونية من صلاح لحياة الناس وبقية المخلوقات ، وما ينطوي على اختلالها من فساد الأرض وحياة من عليها من المخلوقات .

ولا شك أن أقدر البشر وأبلغهم بياناً لا يستطيع من خلال جملة أو جملتين أن يحيط بمسائل كبرى وقوانين كونية ونعم عظيمة بأبعاد لغوية قابلة للاستعمال و أوجه بلاغية تتمايز وتتفاضل في الحسن والإحكام.

من مواضع الإشارة الزمنية بالُمَّدة :

حتى نطمئن من أن استعمال المفردة (مدَّ) في الاتجاهين سبق أن ورت في كتاب الله فإننا سنتتبع (اولاً) المواضع القرآنية التي استعملت فيها (المُدَّة) للإشارة للزمن  :

{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة:15]

فالله تعالى يتحدث عن المنافقين وكيف أنه جل جلاله (وَيَمُدُّهُمْ ) ويمهلهم مُــدَّةً من الوقت فيزداد طغيانهم ويتضاعف عذابهم إن زهقت أنفسهم قبل أن يتوبوا إلى الله ، وفي هذا منحة وفرصة للتائب لكي عود لربه ، ومدة للمجرمين الذين يزدادون كفراً فإذا أتى اليوم الموعود كان عذابهم متطاولاً مضاعفاً كما تطاول عليهم الأمد فلم يعتبروا يراجعوا أنفسهم فاستحقوا آنذاك العذاب الأليم ، وهي في هذا الموضع تتسع لتحمل معنى آخر وهو معنى (المدد) والعطاء المتصل بجانب الاتساع المكاني والاستطالة الزمنية ، يقول ابن عاشور رحمه الله : و ( يمدّ ) فعل مشتق من المَدَد وهو الزيادة ، يقال مَدَّه إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد ، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي ، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مَدد ثم غلب استعمال مَد في الزيادة في ذات المفعول نحو مَدَّ له في عُمره ومَدَّ الأرض أي مططها وأطالها ، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش) انتهى كلامه رحمه الله.

{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا } [مريم:75]

يقول صاحب التحرير والتنوير رحمه الله (والمدّ : حقيقته إرخاء الحبل وإطالته ، ويستعمل مجازاً في الإمهال كما هنا ، وفي الإطالة كما في قولهم : مدّ الله في عمرك .

و { مَدّاً } مفعول مطلق مؤكد لعامله ، أي فليمدد له المدّ الشديد ، فيسينتهي ذلك .

و { حتى } لغاية المد ، وهي ابتدائية ، أي يمدّ له الرحمان إني أن يَروا ما يوعدون ، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة . فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها { حتى } لا لفظاً مفرداً . والتقدير : يمدّ لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى ) انتهى كلامه رحمه الله.

وقد استعملت مادة (م د د) مهموزاً (بإضافة الهمزة) في أوله وفتح عينه وسكون لامه (أَمَدْ) ، وهو الزمن والوقت يقول جل شأنه:

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران:30]

قال ابن جرير رحمه الله (حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ” أمدًا بعيدًا “، قال: أجلا) انتهى كلامه.

وقال ابن عاشور رحمه الله (يحضر لكلِّ نفس في يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء ، فتودّ في ذلك اليوم لو أنّ بينها وبين ما عملت من سوء أمداً بعيداً ، أي زماناً متأخّراً ، وأنّه لم يحضر ذلك اليومَ .)

{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } [الكهف:12]

واللبث متعلق بالزمن في المكان ، ومثله قوله تعالى عن يونس (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) فكان زمان متعلق بالمكان ، وقوله جل شأنه (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) وهكذا فاللبث متعلق بالزمن في المكان ولكن ما يعنينا في هذا الموضع هو أن الأمد زمن.

الخلاصة :

أن الآية الكريمة تصور نعماً وسنناً جليلة وعظيمة ، ففي استهلاله تعالى للآية نجد الاستفهام التقريري في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ) فبدأت بنسبة ما يلي ذلك للرب جل وعلا ، ذلك أن هذه النعمة من مظاهر ربوبيته جل وعلا لخلقه وقيامه على أمر ملكه ، (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فجعل الظل ذا مدَّةٍ مخصوصة ويتحول خلالها ويتبدل حتى يختفي فلا يسكن ويصبحُ مؤدياً لفساد حياة الناس ، وقلنا أن عزو المدِّ هنا إلى المدة الزمنية مناسب لحال الظل من الشروق وحتى وقت الزوال ، ثم أنه يستطيل ويمتد “مكانياً” من بعد الزوال فأصبح معنى المفردة متحول من حاله السابق كإشارة للزمن إلى حال آخر يشير لامتداده مكانياً ، فتحولت المفردة في معناها كما تحول الظل في اتجاهه في صورة بلاغية بديعة مبهرة ، فكما أن الظل هو ذاته قبل الزوال وبعد الزوال ظلاً ، فكذلك تكون مفردة المدّ قبل الزوال وبعد الزوال مدّاً ، ولكنها تكون مُدّةً زمنية من الشروق الى الزوال ، وامتدادا مكانياً من الزوال إلى الغروب فكان تحول معنى المفردة مع بقاء طبيعتها كما تحول اتجاه الظل برغم بقاء طبيعته ، وقلنا أن هذا الجزء من الآية يحتمل أيضاً مسألة الكسوف والخسوف وكذلك الليل فكلها ظواهر متعلقة بالضوء والظل ، وسكون الظل فيها استمرار له وهذا يحمل الضرر والفساد لحياة الناس ، (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) فسكونه يحصل بسكون الأرض عن الدوران وسكون الشمس عن الحركة (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) فالظل من نواتج الشمس فحيثما وجد الظل نستدل منه على موضع الشمس ، وأينما وجدنا الشمس كانت دليلاً على موضع الظل ، ولو توقفت الشمس عن الحركة وسكنت الأرض عن الدوران لأدى ذلك لسكون الظل فلا يكون له (مُــدَّةٌ) معلومة يتضائل فيها ، ولا (امتدادٌ) واستطالة تقود لغيابه وانتهاءه فيبقى ساكناً لا يتحرك.

( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) وقبض الظلّ هنا بقبضِ مُسَبِّبِهِ وانطفاء الضوء الذي يحدثه وهو الشمس ، فإذا هي بلغت مستقرها وانتهى ضياءها فإن الذهاب بضوءها وقبضه على الله يسير فهو مالك الملك سبحانه لا يستعصي عليه شيء ولا يمتنع عن إرادته أمر (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)وهنا أجمل تعالى معنىً متعلق بما سبق وهو الليل والنهار وتعلقهما بالسبات والنشور ، وهو المتصرف جل وعلا في ملكه فتبارك الله أحسن الخالقين والله تعالى أعلم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

رابط المقال السابق

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »