أوْهَنُ البُيُوْتْ ، بَيْتُ العَنْكَبُوْتْ

بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في سورة العنكبوت قال ربنا جلت قدرته:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
مقدمة : استحثني رد فضيلة الشيخ الدكتور مساعد الطيار وفقه الله على الأستاذ الكاتب فهد الأحمدي وفقه الله على مقال يؤول فيه الكاتب البيوت المذكورة في الآية المسطرة أعلاه في قوله تعالى (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) بأنه طبقاً لما كشف عنه العلم الحديث أن خيوط العنكبوت لو اجتمعت لكانت أقوى من الفولاذ وعليه فإن الوهن المذكور في الآية ليس المقصود به الوهن الحسي لخيوط العنكبوت ولكن يقصد منه الوهن المعنوي في علاقات العنكبوت الأنثى بالذكر وتصدعها وضعفها حتى أنها تصل لان تأكل الأنثى الذكرَ ، وقرأت حجة ورد الشيخ الفاضل الدكتور مساعد واتفق معه في الهدف ولا اتفق في الوسيلة فإني اعتقد أن الاحتجاج لم يكن مستفيضا في مكانه لأنه طرق أسسا أخرى غير ما أرى أنه ينبغي أن يطرقها فكان التركيز على جزئيات في الفكرة وليس نقض اساسها وهذا ما تبعه عدد من الاخوة المعقبين على ما كتب وفي هذا المقال الذي استغفر الله جل وعلا إن أخطأت فيه وأحمده إن وفقني للقول الحق فيه ابدأ بمحاولة لفهم من وجه آخر للآيات ثم أفند ما ذهب إليه أستاذنا الكريم فهد الأحمدي ووجه الخطأ فيه فأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.
أولا : فهمي للآية الكريمة:
 الله جلت قدرته يضرب لنا مثلا في سياق تبيانه لخلقه الفرق بين تولي المؤمنين لله جل وعلا وبين تولي المشركين للأوثان والأصنام والآلهة المتعددة من دون الله ، فيبين الحق جل وعلا الفرق بين اللجوء والاعتصام بالله جل وعلا وبحبله المتين ،واللجوء إليه وحده لا شريك له والاستعاذة به واللوذ به والاستمساك بعروته الوثقى وبين الاستمساك بحبال متعددة هي توازي في ضعفها ووهنها الحبال التي يستعين بها العنكبوت في تعليق بيته فهي مئات الحبال كما يتخذ المشركين مئات الأصنام يتعلقون بها ويلجئون إليها ولكن هم من قام بتأليهها فهم كالعنكبوت التي التي صنعت بيتها بنسج خيوطها وحبالها مقابل المؤمن المعتصم بعروة الله الوثقى التي ألقاها الله إليه ولم يصنعها بنفسه فهي لا تنفصم عراها ولا تنقض فتائلها لأنها ليست من صنع اللاجئ واللائذ بل من صنع الملجأ والملاذ نفسه جلت ذاته ، والمشركين يشابهون العنكبوت التي (اتخذت) بيتها فهم (أتخذوا) من دون الله آلهة إذ يقول سبحانه وتعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ } [يس:74]
بينما المؤمنين يستمسكون بحبل واحد وعروة واحدة لم يصنعوها بل مدها الله إليهم لينقذهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور وهي في قوله جلت ذاته:
(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ )  لقمان:22
فالمقابلة هنا بين العروة الوثقى الواحدة وبين الحبال المتعددة التي تصل الكفار بأوثانهم التي صنعوها وجعلوا منها آلهة ويقول تعالى:
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)البقرة:256
ففي حين كانت حبال العنكبوت المتصلة بالأحجار والأخشاب كحبال المشركين المتصلة بالأحجار والأخشاب تنفصم بأهون المخلوقات ولا تغني عمن يستمسك بها شيئا كانت عروة الله واحدة وثقى لا تنفصم ولا تنقطع.
وشتان بين الاعتصام بحبل الله والاعتصام بحبال الشركاء والأولياء المتفرقون من دون الله
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)  يوسف:39
أتعتصمون بحبال ضعيفة واهنة كحبال العنكبوت تلجئون إليها وتلوذون بها أم حبل الله الواحد الأحد ذا الحبل الوثيق والقدرة المطلقة ؟
ويقول جلت قدرته مبينا ضعف أولياء المشركين
( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)الرعد:16
ويأمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا وأتباع هذا الدين القويم عموما بالاعتصام بحبل الله والاتحاد في العقيدة والاعتقاد بأن الله جمع المؤمنين بأن وحد عقيدتهم وأوصلهم للعبودية الحقة
فيقول ربنا سبحانه وتعالى:
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)آل عمران:103
ثانيا :تأويل الأستاذ فهد الأحمدي
لا شك أن التفكر في كتاب الله أساس متين من أسس هذا الدين وتدبر آياته قيمة عظيمة من قيم هذا الدين وأمر صحي وهو يفضي إلى الاجتهاد فإما الإصابة فيحوز المجتهد أجران وإما أن يخطئ فيحوز اجر اجتهاده فقط ، والركون لكتب المفسرين رحمهم الله وحدهم دون إعمال العقل واستجلاب المعاني التي تتوافق مع ما استجد في العصر بجانب الرجوع للتفاسير هو التدبر وأما الركون لاجتهادات المتقدمين فقط فهو تدبر لتدبرهم وليس تدبرا لكتاب الله مباشرة ولكن الضابط هو رجوع المجتهد إلى الحق إن عرفه سريعا ونحن هنا نتدارس ما اجتهد فيه الأستاذ فهد الأحمدي فنقول الآتي:
  •        اتضح مما سبق ذكره أن عناصر المثل وأركانه هي العلاقة بين : اللاجئ والملجأ ، العابد والمعبود ، ففي حال الأيمان يكون الله الإله المعبود والمؤمن هو العابد ، وفي حال الكفر تكون الآلهة من الأوثان والأصنام هي المعبودات والكافر هو العابد ، وهم – أي الكفار – مثلهم مثل العنكبوت التي ربطت نفسها بحبال واهنة بما لا ينفع ولا يغني شيئا وبالتالي فلا مقابلة بين العلاقة بين الإله والعبد وعلاقاتهما (إلوهية وعبودية وربوبية ) وبين الذكر والأنثى فالذكر والأنثى علاقتهما (تكاملية متساوية) في التكافل فكل منهما بحاجة الآخر ، فلا حاجة لتفنيد هذا التشبيه والدخول في دقائقه من الاصل حتى وإن صح لأنه لا يلج في مجال المراد من المثل والعلة من ايراده في الآية لعدم وجود تشابه في العلاقة بين ذكر العنكبوت وأنثاه وبين الأرباب والأوثان وعبّادها من جهة وبين الله وموحديه وعابديه من جهة أخرى وهنا يكفي ان تنقض المسالة بذلك .
  •        إن وصف العلاقات الاجتماعية بين العنكبوت وأنثاه بالضعف والوهن غير دقيق فإذا كانت الأنثى تأكل الذكر وتأكل صغارها فلم تعد علاقة واهنة بل علاقة عدائية تفضي إلى الموت، فتسمى واهية لو كانت الأنثى او الذكر يترك الصغار ويغادر او تتبع الأنثى ذكرا آخر إلى آخر علامات وهن العلاقات الاجتماعية ولكن في هذه الحالة المسألة تختلف وتتعدى ذلك إلى القتل ولعمري لم تعد علاقة واهية بل عدائية قاتلة وبالتالي تنتفي نسبة الوهن لعلاقة العنكبوت.
  •       إن محاولة إثبات نظرية العلاقات الاجتماعية بين العنكبوت على حساب نفي وهن بيت (شبكة) العنكبوت خطأ كبير ، فالقول بأن خيط العنكبوت إذا كان سمكه كذا وكذا أصبح أقوى من الفولاذ فإنه في هذه الحالة لا يصبح بيت عنكبوت بل شيئا آخر وعليه فالاستدلال بذلك وإن صحت المعلومة  فاسد ، وتركيب لمجاز على مجاز والأمر ابسط من ذلك ، وهنا تبرز نقطة هامة أن ما يستجد من فهم لكتاب الله عادة يكون وجه جديد من وجوه المعاني وصورة إضافية وفقا لما يكتشفه العلم ولا ينفي الصورة التي تبادرت إلى ذهن المتقدمين والصحابة لأن في نفيها نسبة الإضلال إلى كلام الله تنزه وتعالى الله عن ذلك ، فلا احد حين نزول الوحي يطيق ويستطيع أن يعرف أن العنكبوت يأكل بعضه أو أن بيت العنكبوت وخيوطه إذا تضاعفت صارت أقوى من الفولاذ والله لا يلزم ولا يكلف الأنفس مالا طاقة لها به ، فضلا عن أن هذا الفهم يتعارض مع كون هذا الكتاب مبين واضح سهل.
وبعد فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأدعو الله أن يجزل المثوبة لمن دفعنا جميعا لهذا البحث والتدبر والتفكر والإيضاح والاستيضاح وهو الأستاذ فهد الأحمدي واشكر شيوخنا الاكارم وأولهم شيخنا الكريم الشيخ الدكتور مساعد الطيار وفقه الله ووفق الجميع لما يحبه ويرضاه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
 
 

تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »