الصَّوْمُ وَالصِّيَامْ ، المَفْهُوْمُ وَ الفَرْقُ فِيْ السِّيَاقِ القُرْآنيّ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الصَّوْمُ وَالصِّيَامْ ، المَفْهُوْمُ وَ الفَرْقُ فِيْ السِّيَاقِ القُرْآنيّ

 

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

ظَهَرَت مُؤخَّراً مُحاولاتٌ لإنزالِ مفاهيم للتفريق بين الصوم والصيام تراوحت بين الإقرار بأنهما يحملان نفس المعنى ولا فرق بين المفردتين ، وبين مفاهيم أخرى تشط إلى ما يشذ عن المفهوم المتبادر للذهن ، وقد تتبعت تلك المفردتين وبحثت عما إذا كان هنالك فروق حقيقية بين المفردتين مستحضراً إستحالة وجود الترادف بين المفردات القرآنية فوصلت بفضل الله ما أعتقد بأنه هو المفهوم الصحيح والفرق الصريح بين المفردتين وهو مفهوم شديد البساطة وقوي الارتباط بالنص القرآني مقارنة مع الادعاءات المنشورة.

وقبل البدء في طرح ما تم التوصل إليه من خلال الاستقراء والبحث سأتطرق لمواضع المفردة في القرآن الكريم ثم سأنطلق- على غير المعتاد – إلى الأقوال السالفة والحالية ووجه الخلل فيها ومن ثم سأختم شارحاً الفكرة البسيطة التي توضح هذا المفهوم ومدى اتساقه مع طبيعة المفردة وسياق استعمالها.

 

مواضع ذكر الصوم والصيام في القرآن الكريم

ذكر الصوم بهذا اللفظ في موضع واحد وهو أمر الله لمريم عليها السلام عند لقاءها لقومها وهي تحمل وليدها نبي الله عيسى عليه السلام للدلالة على الامتناع عن الكلام دون سواه فيقول تعالى :

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)  مريم:26

فكانت الآية تحمل توجيهاً ربانياً ضمنياً هو أن تمتنع عن الكلام نذراً وتوجيها صريحاً أن تخبر قومها بذلك النذر وتمتنع عن إجابة ما تُسأل عنه وتترك الحديث لوليدها.

وقد ورد الأمر بالصوم عن الكلام لنبي الله زكريا ولكنه لم يكن مذكوراً كصوم ولكن ذكر في موضعين على النحو التالي:

{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } [مريم:10]

وفي موضع آخر جاءت صيغة الامر بالصوم عن الكلام في قوله تعالى:

{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [آل عمران:41]

فلم يرد الأمر بالنهي عن الكلام باسم الصوم إلا في قصة مريم عليها السلام كما سلف.

أما مواضع ذكر الصيام فقد أتت في القرآن الكريم للدلالة على فريضة الامساك عن الأكل والشرب والجماع والسباب والفاحش من القول في تسع مواضع:

فذكر الصيام في تفصيل أحكام صيام رمضان في موضعين:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183]

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة:187]

في أحكام الحج :

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة:196]

في كفارة القتل الخطأ :

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء:92]

في كفارة اليمين:

{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [المائدة:89]       

في قتل صيد المحرم:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [المائدة:95]

في كفارة الظهار:

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المجادلة:4]

 

 أقوال السلف في مفاهيم الصوم والصيام

أما الصيام فجرى اتفاق وإجماع على أنه ما عرف أهل الملة من ترك الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ولم يشذ عن ذلك القول أحد ولكن ما قيل في الصوم في الموضع الوحيد الذي ورد فيه وهو قوله تعالى

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) مريم:26

فساورده على قولين أولهما قول ابن جرير رحمه الله حيث أنه أشار للمشهور من أقوال السلف في ذلك وثانيهما قول ابن عاشور

فنبدأ بقول الطبري رحمه الله :

وقوله ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ) يقول: فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه ( فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) يقول : فقولي: إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألا أُكَلِّم أحدًا من بني آدم اليوم ( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا )

وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم، قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الآية ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) صمتا.

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال : أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن عثمان، قال: سمعت أنس بن مالك يقول ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) قال: صمتا.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) قال : يعني بالصوم: الصمت.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن سليمان التيميّ، قال: سمعت أنسا قرأ (إنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَن صَوْما وَصَمْتا ) .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) أما قوله (صَوْما) فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام.

انتهى كلامه رحمه الله.

أما قول ابن عاشور رحمه الله في ذلك فهو :

هذا من بقية ما ناداها به عيسى ، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل ، تلقيناً من الله لمريم وإرشاداً لقطع المراجعة مع من يريدُ مجادلتها ، فعلّمها أن تنذر صوماً يقارنه انقطاع عن الكلام ، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة .

وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة ، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دلّ عليه حديث المرأة من أحمس التي حجّت مُصمتة . ونسخ في شريعة الإسلام بالسنة ، ففي «الموطأ» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : ما بال هذا؟ فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلسَ ويصوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليُتم صيامه ” وكان هذا الرجل يدعَى أبا إسرائيل .

وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم ، فقال لها : «إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي» . وفي الحديث أن امرأة من أحْمَسَ حجّت مُصمتة ، أي لا تتكلّم . فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخه الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مروه فليتكلّم» ، وعملِ أصحابه .

وقد دلّت الآثار الواردة في هذه على أشياء :

الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا ، فدلّ على أنه غير قربة .

الثاني : أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله : عليّ نذر . وفي «الموطأ» عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك : ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه .

الثالث : أنه أومأ إلى علّة عدم انعقاد النذر به بقوله : «إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ» .

فعلمنا من ذلك أنّ معنى العبادة أن تكون قولاً أو فعلاً يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج ، فيُحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية ، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم ، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم .

وفي هذا المعنى قوله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } [ الحج : 36 37 ] ، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي .

وفي «البخاري» : عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يُهادَى بين ابنيه فقال : ما بال هذا؟ قالوا : نذر أن يمشي . قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيّ . وأمره أن يركب» ، فلم ير له في المشي في الطواف قربة .

وفيه عن ابن عباس : «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان رَبط يده إلى إنسان بِسِيَرٍ أو بخيط أو بشيء غير ذلك ، فقطعه النبي بيده ثم قال : قده بيده» .

وفي «مسند أحمد» عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاصي : ” أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان . فقال : ما بالهما؟ قالا : إنّا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة ، فقال : أطلقا أنفُسكما ليس هذا نذراً إنما النذر ما يبتغى به وجه الله ” وقال : إسناده حسن .

الرابع : أنّ الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ : نهى رسول الله عن ذلك ، ولذلك قال مالك في »الموطأ» عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس : «قال مالك : قد أمره رسول الله أن يتمّ ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية» .

ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم يكن فيه حَرج على النفس كنذر صمت ساعة ، وأنه تعذيب للنفس التي كرّمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرْء مفسدة مثل القصاص والجَلد . ولذلك قال : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ” إنّ دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبْشاركم عليكم حرام ” لأن شريعة الإسلام لا تُناط شرائعها إلاّ بجلب المصالح ودَرء المفاسد .

والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في «الموطأ» . ولذلك قال الشيخ أبو محمد في «الرسالة» : «ومَن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه ، وليستغفر الله» ، فقوله : «وليستغفر الله» بناء على أنه أتى بنذره مخالفاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ولو فعل أحد صمتاً بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراماً إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية .

وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحماً على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة .

ومعنى { فقولي إني نَذَرْت للرحمن صَوْماً } فانذري صوماً وإن لقيت من البشر أحداً فقولي : إنّي نذرت صوماً فحذفت جملة للقرينة . وقد جعل القول المتضمن إخباراً بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى : { قولوا آمنا بالله} [ البقرة : 136 ]. وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلاّ في حال الضرورة مع عدم تأتّي الصدق معها ، ولذلك جاء في الحديث : “ إن في المعاريض مندوحة عن الكذب

وأطلق القول على ما يدلّ على ما في النفس ، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوماً مجازاً بقرينة قوله { فلن أُكلِمَ اليَوْمَ إنْسِيّاً }. فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوماً بأن تشير إشارة تدلّ على الانقطاع عن الأكل ، وإشارةً تدل على أنها لا تتكلّم لأجل ذلك ، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطاً بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية ، وإن كان الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين ، وقد علمت مريم أنّ الطفل الذي كلّمها هو الذي يتولى الجواب عنها حِين تُسأل بقرينة قوله تعالى :{ فأشارت إليه } [ مريم : 29 ].

والنون في قوله { تَرَيِنَّ } نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة .

والإنْسِي : الإنسان ، والياء فيه للنسب إلى الإنس ، وهو اسم جمع إنسان ، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل : ياء حَرْسي لواحد من الحرس . وهذا نكرة في سياق النفي يُفيد العموم ، أي لن أكلم أحداً .

وعدل عن أحد إلى { إنسياً } للرّعي على فاصلة الياء ، وليس ذلك احترازاً عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عندالمخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة . انتهى كلامه رحمه الله.

 

الأقوال المحدثة الشاذة

ظهر بعض من قال آراءً متناقضة مع القرآن فقال أحدهم أن الصوم هو الإمساك عن الحديث السيء والاكتفاء بالطيب من القول وهذا غير دقيق لمناقضته لقوله تعالى (فلن أكلم اليوم إنسياً) فلو كان الصوم عن شيء من الكلام وترك شيء آخر لما جرى النفي بالجملة لتكليم الإنس جميعاً ، وقد لوحظ على القائلين بذلك تركهم لسياق الآية كاملة واجتزاءها وبناء رأيهم على جزء دون النظر في ما يليه وهذا خطأ يبنى عليه رأي فيكون خطأ مركَّباً

التوجيه الأنسب لمفهوم الصوم والصيام

 لقد تبين بأن الصوم الذي أمرت به مريم عليها السلام هو الإمساك التام عن الحديث دون سواه من الامتناعات فقد سبق أن قال تعالى حين وضعت عيسى :

{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } [مريم:26]

فلم يكن صومٌ عن الطعام والشراب بمعنى الصيام الذي نعرفه بل كان صمتاً وامتناعاً عن الكلام دون سواه ، وقد يكون ذلك عبادة سالفة شرعت على بني إسرائيل ونسخت في ديننا.

أما الصيام فهو ما عرف من ترك الشراب والطعام والجماع من طلوع الشمس وحتى غروبها .

ولكن ما العلاقة بين مفردتي الصوم والصيام ؟؟

عند مقارنة المفردتين بمعانيها ومبانيها اتضح بأن:

الصَّوم (اسم ثلاثي أجوف معتل ) هو : عَمَلٌ يَمْتَنِعُ فِيْهِ الصَّائِمُ عَنِ أمْرٍ مُفْرَدٍ وَاحِدٍ لِمُدَّةٍ مَعْلُوْمَة.

أما الصِّيام فهو : عَمَلٌ يَمْتَنِعُ فِيْهِ الصَّائِمُ عَنِ عَدَدٍ مِنَ الإمْسَاكَاتِ وَ الامْتِنَاعَاتِ لِمُدَّةٍ مَعْلُوْمَة.

فكان الصوم مفرد والصيام جمع ، والصيام يتضمن (صوم عن الطعام ، صوم عن الشراب ، صوم عن الجماع ، صوم عن السيء من القول)  فتضمن امساكات متعددة وامتناعات متنوعة فجمعت في كلمة “الصيام

وعندما كان فعل مريم عليها السلام فعل امتناع وامساك مفرد صح ان يسمى صوماً وليس صياماً ، ولما كان صيام رمضان يشتمل على امتناعات متعددة كما اسلفنا فوجب أن يسمى صياماً (صيغة جمع للصوم ) فالزيادة في المبنى زيادة في المعنى.

وهذه الاسماء في اللغة صوم (مفرد) و صيام (جمع) يشبهها كذلك قولنا (ثوب و ثياب) ، (سوط و سياط ) ، (روض و رياض ) ، (ضوء و ضياء) ، (حوض و حياض) وكذلك (صوم و صيام).

أما القول بأن الحديث النبوي والقدسي تضمن تسمية (الصوم) كحديث:

((عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)) [ متفق عليه]

وسواه من الأحاديث والآثار فأقول وبالله التوفيق :

أولاً : هذا لا يشكل على القول بأن الصوم امتناع وامساك مفرد ، فلا يتعارض ذلك الفهم مع المعنى ابداً ، بل إن الاشارة للصوم كعمل مفرد أبلغ من الاشارة إليه كصيام (مجموعة الامساكات) ونرى أن القرآن يستعمل الصلاة كوحدة أصلية للدلالة على الصلوات بعمومها و نجده تارة يذكر الصدقة كعمل مفرد للدلالة على الصدقات بأنواعها وأحيانا يرودها بصيغة الجمع يقول تعالى :

{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة:103]

وفي موضع آخر يقول جل شأنه

{ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المجادلة:13]

ثانياً : في هذا رد بيّن على القائلين بأن الصوم مختص بالإمساك عن الكلام ، فلو كان الأمر كذلك لما ورد استعماله في الحديث بل أن استعماله هنا يدل على أنه يشير للإمساك والامتناع بعمومه كعبادة .

ثالثاً : فلا يخفى بأن القرآن الكريم له خصوصية في استعمال المفردات ودقة في مواضعها واستعمالاتها وليس الأمر جزافاً ولا يشبه استعمال الناس في حياتهم العامة ، وسواءً جهلنا أم علمنا فإن استعمال مفرادات بصيغ مختلفة له دلالاته في القرآن الكريم نصل إليها بالتدبر والمراجعة والاستقراء والمتابعة وقد لا يفتح الله بشيء ولكن هذا لا يعني انتفاء الغرض وخلو النص من البيان بأعمق مما تراه أعيننا.

ومصنفات علوم القرآن مليئة بالأمثلة والنكت اللطيفة التي تبين كيف أن توظيف الجمع والإفراد ينطوي على بلاغة مخصوصة بالقرآن الكريم وقد خصص لها السيوطي في كتاب الاتقان قاعدة للجمع والإفراد أورد فيها صور من مفردات القرآن جمعاً وإفراداً مع ايراد أوجه التناسب في استعمال المفردة مما لا نجد مثله في كلام البشر فلا يعتنى بذلك كما هو في كتاب الله وبرغم هذ فلا شك ان هناك ما يدق خفاءهُ عن المتدبرين.

القول الوحيد في الجمع والإفراد للصوم

لم اقع على قول بالتفريق بين الصوم والصيام بالإفراد والجمع إلا قولاً واحداً لبعض فقهاء الأحناف ورد على ذلك ابن عابدين -بدون ذكر اسم القائل- في كتابه “رد المحتار على الدر المختار” فقال في كتاب الصوم [ ص: 370 ] :

“قيل لو قال الصيام لكان أولى لما في الظهيرية لو قال : لله علي صوم لزمه يوم ، ولو قال : صيام لزمه ثلاثة أيام كما في قوله تعالى – { ففدية من صيام } – وتعقب بأن الصوم له أنواع على أن أل تبطل معنى الجمع والأصح أنه لا يكره قول رمضان “

وجاء في الحاشية ما يبين ذلك القول:

”  كذا في شرح ابن الشلبي ( قوله : قيل ) قائله صاحب البحر ح ( قوله : لما في الظهيرية إلخ ) وجه الاستشهاد أن هذا الفرع يدل على أن الصيام جمع أقله ثلاثة أيام كما في الآية فإن فدية اليمين صوم ثلاثة أيام فكان التعبير به أولى لدلالته على التعدد ، فإن الترجمة لأنواع الصيام الثلاثة أعني الفرض والواجب والنفل ( قوله : وتعقب إلخ ) المتعقب صاحب النهر .

حاصل كلام الشارح أن الصوم اسم جنس له أنواع وهي الثلاثة المذكورة ، فحيث عبر عنه بالصوم أو الصيام يراد منه أنواعه المترجم لها لا ثلاثة أيام فأكثر قال في المغرب يقال صام صوما وصياما فهو صائم وهم صوم وصيام ا هـ فأفاد أن مدلول كل من الصوم والصيام واحد ولا دلالة في واحد منهما على التعدد ولذا قال القاضي في تفسير قوله تعالى { ففدية من صيام } أنه بيان لجنس الفدية وأما قدرها فبينه عليه الصلاة والسلام في حديث كعب . ا هـ . نعم يأتي الصيام جمعا لصائم كما علمته لكن لا تصح إرادته هنا ولا في الآية كما لا يخفى ، ولو سلم أن الصيام جمع لأفراد الصوم فلا أولوية في العدول إليه لأن أل الجنسية تبطل معنى الجمعية فيتساوى التعبير بالصوم وبالصيام هذا تقرير كلام الشارح على وفق ما في النهر فافهم ، وعلى هذا فيشكل ما مر عن الظهيرية وإن قال في النهر لعل وجهه أنه أريد بلفظ صيام في لسان الشارع ثلاثة أيام فكذا في النذر خروجا عن العهدة بخلاف صوم ا هـ يعني أن لفظ صيام وإن لم يكن جمعا لكنه لما أطلق في آية الفدية مرادا به ثلاثة أيام كما بين إجماله الحديث فيراد في كلام الناذر كذلك احتياطا فتأمل ( قوله : والأصح إلخ ) انتهى كلامه.

أقول :

هذا القول بأن الجمع يشير إلى تعدد المدة وليس تعدد الامساكات ، فكان القول هو أن صوم يوم يقال له (صوم) فإن كان ثلاثة أيام فأكثر كان (صياماً) وهذه صورة أخرى انكرها صاحب المصنف ، فأقول لما كان الصيام مناطه الامساك والامتناع عن فعل محدد وجب تقديم الامساكات -عند الاشارة إلى عبادة الصوم – على المدة فلا يصح القول بأن الصوم لما دون ثلاثة أيام وما يزيد يكون صياما ، بل كما أسلفنا فإن العبرة بعدة الامساكات والامتناعات للتفريق بين الصوم والصيام ، ووجاهة ذلك القول مستمدة من النص القرآني الذي يفرد الامتناع الواحد المفرد بقوله (صوم ) ويجمع الامتناعات المتعددة فيسميها (صياماً).

هذا والله أعلى وعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »