الصَّبُّ وَ السَّكْبُ فِيْ التَّعْبِيْرِ القُرْآنِيّ

الصب والسكب في التعبير القرآني
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه          أما بعد
فالتعبير القرآني في غاية الدقة في استخدام الألفاظ التي تناسب المقام بل لا تجد مكانا يستوعب كلمة سوى تلك التي تجدها في النظم القرآني فبرغم الترادف الذي تزخر به اللغة إلا أنه لا ترادف كتاب الله – فيما اعتقد – فما تستعمل لفظة حتى تجدها لا يمكن أن تستعمل إلا في هذا الموضع ولا يمكن استعمال سواها ، ومن تلك الألفاظ لفظتي (السكب والصب) فالمتتبع للفظتين في القرآن الكريم يستنبط تعريفاً لكل لفظ يمكن من خلاله تمييز الفروق الطفيفة بين كل لفظة والأخرى ، وقد يحتج البعض أن كبار مفسرينا قد عرفوا اللفظ وتجدهم في معرض تعريف (الماء المسكوب) يعرّفونه ب (المصبوب) وأقول أن التعريف لتقريب المعنى ليس ما اعنيه فهنا عرف مفسرينا رحمهم الله المسكوب بالمصبوب لغرض تقريب المعنى للقاريء وأقول وبالله التوفيق ان التعريف بهذه الصورة منبعه ومصدره كتاب الله نفسه كما سنرى:
الصَّبّ : نُزُوْلُ السَّائِلَ كَالمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ عُلُوِّ بِشِدَّةٍ وَقُوَّةِ قَدْ يُصَاحِبُهَا وَ يَتْبَعُهَا ضَرَرٌ أَو تَلَف وأذىً لِمَا يُصَبُّ عَلَيه.
ومن شواهده القرآنية ما يلي:
قوله تعالى في سورة (عبس):
 (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فكان الصبّ شديدا صاحبه وتبعه شق للأرض وتوحل الماء ولو أن مؤدى ذلك  إنبات النبات ، وانصباب الماء من أعالي الجبال فيما يسمى (الشلالات) ينزل شديدا يحطم ما هو أسفل المصبّ ولا يتمكن الإنسان الدخول تحته لشدة نزوله فما تحته يتحطم وينشق.
قوله تعالى في سورة (الحج)
(هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ(19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) )
فالصب هنا عذاب لأهل النار فالحميم شديد الحرارة يصب بشدة فوق رؤوس أهل النار فيخترق منه ما يصل إلى أحشائهم فيصهرها وما يفيض عنه يصهر جلودهم ويذيبها فتبع الصب هنا ضرر لما وقع عليه السائل.
 ويقول جلت قدرته في سورة (الدخان)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
وكذلك وردت لفظة الصب في هذه الآية على سبيل بيان العذاب الذي يقع على الكفار في جهنم أجارنا الله وإياكم منها فكانت لفظة تدل على شدة العذاب وفعل السائل المصبوب في إيقاع الألم والأذى على المجرمين.
ويقول جلت قدرته في سورة (الفجر)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
فإن فرعون أفناه الله وجيشه وعذبهم بأن صبّ عليهم فرقيّ الماء اللذين انفلقا وارتفعا كالجبال وحين نزل وقومه انصب ذلك الماء فوقه وجنوده فكان سوط عذاب اتلف أجسادهم واختلط بدمائهم ونجاساتهم ، فكان الله جل وعلا يصف ما وقع لهم في الدنيا من عذاب لقاء طغيانهم وإفسادهم.
وأما السكب والانسكاب فاستخدمت في كتاب الله مرة واحدة
يقول ربنا تعالت ذاته وتقدست اسماؤه في سورة (الواقعة)
(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) )
السَّكْب : نُزُوْلُ السَّائِلَ كَالمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ عُلُوِّ مُتَّصِلاً مُنْتَظِمَ الوَتِيْرةِ هَنيء ٌ لا يُصَاحِبُهُ تَلَفٌ أو فَسَادٌ للمَسْكُوبِ أو لِمَا انْسَكَبَ عليْه.
فتعبير الصب في كتاب الله ارتبط بالعذاب بالسائل المصبوب من أعلى فكان لا يناسب هذا اللفظ وصف انهار الجنة وينابيعها فكان استخدام تعبير (السكب ) والانسكاب الذي يصف حركة الماء اللطيفة الرأسية في الجنة  بالانسكاب وليس الصب، ولو أراد القاريء استبدال هذه مكان تلك فلا يستقيم السياق لاختلال المعنى الدقيق للفظه وهنا يتبين لنا ضرورة ايجاد الفرق بين اللفظين
جعلنا الله وإياكم من أصحاب اليمين آمين
والله أعلى وأعلم وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »