فُؤادُ مُوسَى (عَليهِ السَّلام) َوأُمّه

فُؤادُ مُوسَى (عَليهِ السَّلام) َوأُمّه

دراسة تطبيقية لمفاهيم القلب والعقل والفؤاد على قصة موسى في القرآن الكريم

مقدمة :

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.

لقد سبق لنا في دراسة سابقة تعريف القلب والعقل والفؤاد على ضوء التعبير القرآني ، وقلنا أن:

تعريف العقل : هُوَ وِعَاَءُ الْفِطْرَةِ وَأدَاةُ ضَبْطِ السُّلُوك البَشَرِيّ المَبْنيّ عَلَى تَحْقِيْقِ فِهْمِ المُحِيْطِ المادّيّ ،وَالعَقْلُ السَّليم هُوَ مَنَاطُ كُلَّ فِعْلٍ حَسَنْ إذا اسْتَعْلَى فِيْهِ عَلَى الفُؤَادِ وضَبَطَ سُلُوكَه.

تعريف الفؤاد : هُوَ وِعَاءُ الحَاَضِرِ الَّذِيْ يَتَلَقَّىَ مَاَ يَلِجُ فِيِهِ مِنْ خِلَالِ الحَوَاسّ وَهُوُ مَنَاَطُ العَوَاطِفِ والشُّعور مِنْ خَوْفٍ وَحُبٍّ وَرَجَاءٍ وَبُغْضٍ وَحِقْدٍ وَرِضًىً وَشَهْوَةٍ وَسَعَادَةٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المَشَاعِرِ البَشَريّة ، وَهُوُ مُتَعَلّقٌ بِكُلِّ فِعْلٍ قَبِيْحْ إذا اسْتَعْلَى عَلَىْ العَقْلْ وَتَقَدَّمَ عَلَيْه.

تعريف القَلْبْ : هُوَ جِمَاعُ العَقْلِ وَالفُؤَادِ وقائدهما يُرَجِّحُ ويتبع العَقْل عندمَاَ يعتليْ عَلَى الشَّهْوَةِ (الفُؤَاَدْ) أو العَكْسْ ، وهو مَنَاطُ الإدْرَاكِ وَمَنْشَأ الفِعْلِ والقَرار.

وقلنا بأن موضع تلك الأدوات هو النفس ، فلا يراد بالقلب الشرعي مثلا المضغة التي تضخ الدم والتي طالما زرع بدلا منها قلباً صناعياً أو طبيعياً من متبرع فلم يتغير سلوك صاحب القلب الجديد ولا دينه ولا قناعاته وهو ما نسميه بالقلب العضوي المتعلق بالجسد فهو أداة بالية متعلقة بالحياة الدنيا ، فحقيقة القلب الشرعي هو نواة النفس وقائدها لفعل الخير أو الشر ، وهو كالملك الذي يملك جواداً (الفؤاد) وفارساً (العقل) وصلاح أمر مملكته مرهون بمن يمتطي الآخر ٫ فإما يكون الفارس (العقل) هو الممتطي للجواد (الفؤاد) فيصلح أمر العبد وتستقيم حياته وعلاقاته بربه ومحيطه ، أو أن العكس يحصل فيمتطي الجواد فارسه فتفسد حياة العبد وتسوء حاله مع ربه وذاته ومحيطه.

الفؤاد مشتعل ملتهب متفلت عاطفي متمرد مرتبط بالمشاهد المحسوسة والأصوات المسموعة وتنعكس مشاهداته ومرئياته على هيئة عواطف ظاهرة ، فيأتي دور العقل الذي يعقل ويقيد هذا الاشتعال والانفلات فيضبط سلوك المرء ويحكم وثاق الفؤاد ، ويبقى الأمر مرهونٌ بالقلب فإما ميل للعقل وتعزيز لسلطته ، أو تجاهلٌ لنداءه واتباع للفؤاد وفلتاته.

وأظهر الأدلة على هذا التفصيل حديث النبي :

عن شهر بن حوشب: قُلتُ لأمِّ سلمةَ: يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ ﷺ إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ. فتلا معاذٌ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الألباني (١٤٢٠ هـ)، صحيح الترمذي ٣٥٢٢ • صحيح

فأراد  تقريب الصورة ليتبين لنا القوى التي تتجاذب القلب وهي من خلق الله العقل والفؤاد فمن انقلب قلبه ناحية العقل أقام ، ومن مال قلبه وانحرف الى الفؤاد زاغ والعياذ بالله .

وفي هذه الدراسة سأقدم بمشيئة الله تعالى دراسة تطبيقية على قصة موسى  وتفاعل القلب والعقل والفؤاد في ثنايا هذه القصة ، ومن خلالها نتعرف على التطور التاريخي للنفس البشرية من ميلها للفؤاد والمحسوسات بأنواعها حتى وصلنا للعصر الحاضر والفترة المحمدية التي تحول فيها الإسلام لخطاب عقلي أكثر منه خطاب عاطفي يلامس الأفئدة .

الفؤاد بين الخير والشر

إن الفؤاد ليس شراً محضاً ولا هو خيرٌ محض ، إنما هو أداةٌ تتفاعل مع العقل ومع محيطها الخارجي فإن جرى توظيفها توظيفا صحيحاً سليماً كانت مؤدية لمهمتها على الوجه السليم ، أما إن بقيت منفلتة عن عقال القلب وأعطيت هواها وشهواتها ورغباتها بدون عقل وضبط وربط ولا تقييد كانت على صاحبها شراً قد يحطمه في نار جهنم.

إن الفؤاد عضوٌ نفسيٌ هام لتحقيق قيم بشرية هامة كالعطف والشفقة والخوف والرغبة الشهوة ونحوها من المشاعر التي تنشأ من المشاهدة والسماع ( أي من منافذ الفؤاد) فبدونها يصبح ابن آدم آلة صماء لا تختلف عن الحجر والشجر ، ويبقى القرار بيد القلب فإن كانت العاطفة منضبطة كعاطفة الأمومة ونحوها فإن العقل يؤيدها ويحث عليها لأن عكسها شذوذٌ يقيده العقل ويحاربه.

نطاق الدراسة وقصة موسى

تَتتبَّع الدراسة كافة مواضع ذكر نبي الله موسى  وسرد قصصه في كتاب الله ، إبتداءً من وحي الله لأمه بأن تلقيه في اليم مروراً بحوادث مرت أثناء وجوده في مصر وقتله للقبطي وهروبه تلقاء مدين وبقاءه حتى قرر العودة بأهله إلى مصر ، ثم رؤية النار وتكليم الله تعالى له وتكليفه بالرسالة ثم لقاءه بفرعون وملئِه وخروجه بقومه حتى جاوز البحر وعبادة العجل والتيه في الصحراء بالإضافة لقصة موسى والخضر التي ذكرت في سورة الكهف.

أم موسى الوحي ، الولادة والخطر

عاشت أم موسى وقومها في محيط وبيئة وثنية لا تعترف بالإله العلوي المجهول الذي لم تراه أعينهم وتمسه أيديهم ، فكانت قيمة الفؤاد طاغية في كل ذلك المجتمع فراعنته و أقباطه وأسباطه وكانت هذه الحالة البدائية من التعاطي مع الأحداث والأشياء سمة غالبة كان لها تأثير على مسيرة بني اسرائيل في كل مراحل حياتهم وتحولاتها المختلفة.

لقد كان طغيان الفؤاد وقِيَمهِ من خوفٍ وفرحٍ وشهوةٍ وغضب حالة نفسية غالبة ، فها هو فرعون يتبنى نبوءة الكهنة والسحرة التي تخبر بأن طفلا من بني اسرائيل سيكون على يديه نهاية الحكم الفرعوني ، ونظراً لتجارب الفراعنة في صدق تلك النبوءات فقد تعاملوا معها بكل جدية ، والنبوءة كانت حقيقية لأننا نعلم بأنها تحققت لاحقاً.

ونعلم بأن بعثة النبي  كانت شكلت حداً فاصلاً بين المرحلة السابقة التي كانت الشياطين تستمع للملأ الأعلى وتصب ما تسمعه في أذن الكاهن والساحر ، ثم انتهت تلك المرحلة وحجبت أقطار السماء عن أولئك الشياطين ، ولكن في عصر الفراعنة لازالت النبوءات تتميز باقترابها من الدقة والصدق ، ولذلك فقد اجتاحت المجتمع الاسرائيلي حالة من الهلع جراء ذبح المواليد الرضع فضلا عن استعباد الرجال واستحياء النساء.

لقد كانت أم موسى واحدة من أفراد ذلك المجتمع المستعبد المرتعب ، فأراد الله أن يلد لها هارون في سنة العفو ولكن ولادة موسى كانت في سنة القتل فطار قلبها خوفاً على وليدها ، وهذا الخوف هو قيمة من قيم الفؤاد ولكن كانت له مع موسى وأمه أحوال عديدة:

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ﴿7﴾ القصص

فعالج الله تعالى مسألة الخوف بإلقاء الرضيع في النهر بمهده ، فجنود فرعون يجوسون بحثاً المواليد ليقتلونهم فلما تملكها الخوف لم يكن هناك بداً من قذف الرضيع بتابوته (مهده) في اليم طاعة لله ولأن ذلك الفعل أهون من ذبح وليدها أمام عينيها ، وهنا نجد أن فؤاد المرأة أكثر اشتعالا وافتئاداً وتأثراً واحتكاماً على قلب المرأة منه عند الرجال ، وما ذلك إلا لخلقتها التي تتطلب طغيان الفؤاد على العقل في سبيل القيام بوظائف الأمومة التي تقوم في مجملها على العاطفة.

وفي سورة طه يبين الله لعبده موسى تلك الحالة ويسرد محتوى الوحي الذي أوحاه الله لأم موسى والبشارات التي جمعت لها ، بأن الله يرجعه إليها ويجعله من المرسلين:

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿38﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴿39﴾ طه

فتغلَّب عقل أم موسى على فؤادها ، بفعل توفيق الله ووحيه ووعده لها ، ولكنها ما لبثت أن اشتعل فؤادها مرة أخرى خوفاً وفَرقاً مما قد يحدث للرضيع موسى في النهر وغيابه عن عينها وحاجته لها فافتأدت نفسها وكاد قلبها أن يميل إلى الفؤاد وعاطفته لولا أن ربط الله على القلب فلم يسمح له بالميل تجاه العاطفة وكبح جماح الفؤاد حتى لا تبدي به وتخبر بأنها ألْقَتْه في اليم ، ولو أطاعت فؤادها لَعَلِمَ قوم فرعون بأن الطفل هو طفلها وربما كانوا قتلوه كغيره من أبناء بني اسرائيل ، فيرينا الله تعالى كيف أن طاعة الفؤاد وتجاهل العقل سبب في الفشل والبوار ، يقول تعالى :

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿10﴾ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿11﴾ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴿12﴾ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾ القصص

قال المفسرون  ، فارغاً من أي شغل إلا انشغالها بحالهِ وخوفُها الشديد عليه ، فكان موسى وحاله شغل أمه الشاغل وسبب قلقها وترقبها حتى أنها من شدة خوفها واشتعال فؤادها كادت تستميل قلبها لطاعته فتخبر عن رميها للرضيع في اليم لكن الله ثبت قلبها فلم ينقلب عن ثباته ويطيع فؤادها فغالبت فؤادها وصبرت وكانت من المؤمنين بوعد الله تعالى والتزمت أمره وتوجيهه الذي بلغها عن طريق الوحي.

وعندما رد الله موسى لحضن أمه قرت عينها وانطفأت جذوة الخوف في فؤادها وأيقنت بموعود الله تعالى فكانت بذلك من العالِمين.

موسى في قصر عدوه

صورة أخرى من صور تقلب القلب نحو الفؤاد أو تماسكه ومقاومته لرغبات الفؤاد، فقد ألقى الله تعالى محبة منه على عبده موسى فما يراه أحدٌ إلا أحبه ، فلما التقطه آل فرعون ورأته امرأة فرعون ضج فؤادها واشتعل حباً وعطفاً وتعلقاً بهذا الوليد الضعيف :

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴿8﴾ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ القصص

فكان الفؤاد واشتعاله سبباً في حماية موسى من القتل ، فغلبت محبته رغبة فرعون بقتل غلمان بني اسرائيل وظن بأن التجاوز عن رضيع واحد لن يكون مؤثراً ولا يعلم أنه التقط حتفه بيديه.

والحقيقة التي يجب أن تستقر في أنفسنا بأن الناظر لفعل الله في فرعون وقومه كان غاية في الحلم والرأفة فقد هيأ لفرعون كل أسباب الهداية حتى أنه اسكن نبياً في بيته حتى صار كأحد أبناءه وكأنه من آل فرعون فكانت دعوته أحرى أن تستجاب لمكانته من فرعون وقومه ولكن استكبار فرعون قاده لمهلكه.

اشتعال فؤاد موسى بالغضب

كان موسى  كأبناء عصره يحمل فؤاداً مشتعلا مفتئداً قد يقدم على عقله ونجد أنه  يقدم فؤاده على عقله ويستميل قلبه نحو الفؤاد في مواقف عديدة منها ما يتملك نفس موسى فيها الغضب أو الخوف أو الحزن ومن تلك المواقف ما حصل منه حين قتل القبطي لسرعة غضبه وتأثره بدعوى الاسرائيلي واستنجاده بموسى:

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴿15﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿16﴾ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ﴿17﴾ القصص

فندم على قتله للرجل ، ورأى أنه ظاهر المجرم ضد القبطي وتعهد أن لا يكون ظهيراً مرة أخرى للمجرمين ، ونرى كيف أن فؤاده انفلت من عقاله حتى أفضى لقتل القبطي.

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴿18﴾فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴿19﴾وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴿20﴾ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿21﴾ القصص

فتراوح السياق هنا بين الخوف والغضب وكلها حالات من حالات الافتئاد والاشتعال الخارج عن نطاق العقل والحلم ، فبعد قتل القبطي ساوره الخوف والترقب خوفاً من قوم فرعون ، وهنا نرى كيف أن الغضب يفضي لفعل غير محمود ثم يفضي هذا الفعل لحالة من الخوف والخشية ، ثم عاد الغضب ليتملك من قلب موسى حين أراد أن يبطش بالرجل الآخر فلما ذكره بفعلته بالأمس تذكر تعهده لربه أن لا يكون ظهيراً للمجرمين فأحجم عن اتباع فؤاده ، حتى أتاه النذير بأن الملأ يأتمرون به ليقتلوه فانقلب الغضب إلى خوف وخشية ، فنرى كيف تناذرت وتناوبت مشاعر الخوف والغضب عندما طغى الفؤاد على العقل.

مرحلة مدين ، الجد والعمل

لم يذكر القرآن الكريم الكثير عن مرحلة سكن موسى  لمدين سوى مساعدة المرأتين وزواجه من إحداهن بمهرٍ هو الإجارة لدى والدهما ثمان سنين ثم إتمامه للمدة بعشر سنين. ولكن يبين القرآن الكريم طمآنة شعيب لموسى  حين لاحظ خوفه من قصته التي قصها عليه ، فنهاه عن الخوف وبشره بأنه بوجوده في مدين فقد نجا من القوم الظالمين:

فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿25﴾ القصص

التكليم والتكليف

قدر الله قدراً ودبر لعبده أمراً ، وعلم ما هو عليه من البرد الشديد والظلام فأراه ناراً وهو تعالى أعلم بما سيكون منه تجاه هذه النار وأنه سيأتيها ويقترب منها فجعل من هذا الموضع محلاً لتكليم عبده ، ولو تتبعنا الحال بمجمله لرأيناه يأخذ بمجامع الفؤاد فيسمعه الله كلامه تعالى الله بأذنيه ، ويريه النار التي كانت ليست كأي نار بعينيه، وبرغم هذا كله فإن فؤاد موسى يتشوق للمزيد من الأدلة المادية فطلب الرؤية التي وإن تعذرت ولكنه رأى أثرها بعينيه يقول تعالى:

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ﴿11﴾ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿12﴾ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴿13﴾ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴿14﴾ إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴿15﴾ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴿16﴾ طه

فخاطب الله تعالى فؤاده ، ونلحظ أن التكليف يراعي حال المكلف من الأنبياء فلم يكلم اللهُ نبيَّنا كما كلم موسى نظراً لاختلاف طبيعة نفس موسى عن محمد عليهما الصلاة والسلام ، فنفس موسى المفتئدة وقلبه المائل للمشاهدة بالنظر المجرد والسماع بالأذن ، ككل أبناء عصره جعلت من الرسالة تتميز بسمات مادية إعجازية وعجائب محسوسة لا تتعلق بميزان العقل وحده في الإقرار بصحتها بل تجاوزت ذلك لإحداث ظواهر مرئية ومسموعة لتشبع غريزة الفؤاد وتعزز جانب الإيمان.

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿17﴾ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴿18﴾ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ﴿19﴾ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴿20﴾ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴿21﴾ طـه

فقام ذلك اللقاء المهيب على الحوار بين الله  وعبده موسى توكيداً وتثبيتاً وتأسيساً لليقين في نفس موسى حتى لا يبقى في نفسه وفؤاده مجالاً للاضطراب والشك والريب مناسبةً للمرحلة وطبيعة الشعب المستهدف بالدعوة والنبي المرسل أيضاً ، فنرى أن اللقاء بالله كان تفاعلياً فيه سؤال وجواب ووقائع مرئية جعلت من موسى يمر بمراحل الخوف حتى تجاوزها ليأمن ويدرك مهمته في جو من السكينة والثقة.

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴿10﴾ إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿11﴾ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴿12﴾ النمل

ونلحظ هنا حجم الخوف الذي داهم فؤاد موسى حين رأى بعينيه ما حصل للعصا وكيف استحالت حية فدبت فيها الحياة والحركة بعد أن كانت مجرد عوداً يابساً ، ونهاه عن الخوف وقرر له تكليفه وأن المرسلين لا يخافون ، في إشارة لضرورة تحجيم الفؤاد وتجاهل اشتعاله بالخوف واضطرابه من جراء المواقف المخيفة.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ﴿18﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴿19﴾ النازعات

وهنا أمر الله موسى بالرسالة ووجهه لفرعون نبياً ورسولاً وأيَّده بالعجائب ليشبع فؤاده ويريه فينظر بعينيه ولم يكتفِ بالدعوة العقلية التي تعتمد على التحليل العقلي فقط ،  بل آزره بالمرئيات والمحسوسات من العجائب.

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴿12﴾ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴿13﴾ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴿14﴾ الشعراء

وبرغم كل ذلك نلحظ أن مشاعر الخوف لا تزال في قلب موسى ولا يزال فؤاده حاضراً في قياس الأمور وتقييم الأمر ، فعبر عن خوفه من التكذيب وكذلك من الانتقام وطلب من الله أن يؤازره بأخيه هارون فأجابه الله لسؤاله.

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴿35﴾ القصص

فطمأنه ربه وشد أزره بهارون وأسكن فؤاده بأنه جعل له سلطاناً وقوة تحميهم من عدوان فرعون وقومه فلن يتمكنون من إيذاء موسى وأخيه ، وتعهد له بأن الغلبة ستكون له ولأتباعه.

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ﴿45﴾ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿46﴾ طه

إن مشاعر الفؤاد كالخوف لم تكن مقصورة على موسى  بل كانت صفة الخوف وطغيان الفؤاد صفة غالبة على أهل ذلك العصر وقد تسببت في تشكيل الشخصية الاسرائيلية كما هو الحال بالنسبة للأقوام الذين عاصروهم في تلك الفترة ، ولكن الاطمئنان والثقة بالله كانت من نصيب موسى وأخيه بكلامه وعجائبه التي منحها عبده موسى وأخيه.

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴿18﴾ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿19﴾ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴿20﴾فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿21﴾ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿22﴾ الشعراء

ونلحظ هنا أثرُ التأييد الرباني لموسى وأخيه فواجهَ موسى فرعونَ وأقصى فؤاده وقدم عقله وقَنِع بما أيده به ربه وثبته وأخيه ، فمن رأى حال هذا النبي العظيم قبل الرسالة علم أنه لا يقوى على الوقوف أمام الفرعون الظالم الطاغية ، ولكن تأييد الله والكيفية التي جرى بها تكليفه يدرك أنه لا يمكن له إلا أن يؤدي الرسالة بثقة وشجاعة طالما خالق الأكوان معه مؤيداً ونصيراً.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿76﴾ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴿77﴾ يونس

مشاعر الفؤاد المليئة بالاستكبار والاحتقار لموسى ورسالته جعلت من فرعون يقصي عقله ويأنف من ميزان العقل ويجعل الفؤاد بعواطفه المليئة بالكراهية خلف تصرفاته تتحكم بها وتوجهها فكان نتيجة ذلك تكذيبه بالحق ونسبته للسحر خشية على ملكهم واعتقاداً منهم أن غرض موسى وأخيه هو حيازة الملك وحرمان فرعون منه:

قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴿78﴾ يونس

فامتناعهم عن الإيمان في أصله ليس لظنهم أن موسى وأخيه كاذبان أو لأن آياتهما سحرٌ مبين ، بل لخوفهم على ملكهم واحتقارهم للمرسَليَن ، ودلالةُ ذلك عندما أتى السحرة وآمنوا بموسى لعلمهم بالفرق بين السحر والآية ، وقد يكون سبب تحولهم المفاجئ وإسلامهم مع موسى وصبرهم على العذاب والأذى علمهم المسبق بمبعث موسى وما يكون منه أمام فرعون فعندما تحققت النبوءة التي ينتظرونها أدركوا بأن مصير من يكذب بها هو الهوان في الدنيا والآخرة فصغرت قوة فرعون في أعينهم وتعاظمت قوة الله في قلوبهم فتقلص الفؤاد وهواه ، وتقدم العقل فأنابت قلوبهم لله ، ولم يعد للفؤاد ومشاعره السلبية أثر يثنيهم عن إيمانهم:

فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ﴿119﴾ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿120﴾ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ ﴿121﴾ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴿122﴾ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿123﴾ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿124﴾ قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿125﴾ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴿126﴾الأعراف

فدعوا ربهم بالصبر على ما سيلاقونه من العذاب ، والصبر قيمة عقلية ، فالعقل يعلم أن فرعون إن قضى فإنما يقضي هذه الحياة الدنيا ، ولو أنهم قدموا أفئدتهم لآثروا السلامة من العذاب وتنكروا للحق واتبعوا الباطل ولكنهم سلكوا طريق العقل فكانوا من المفلحين.

قوم موسى وأفئدتهم الغاوية

إنَّ حالة الضلالة التي صاحبت غالب قوم موسى من بني إسرائيل منذ أن ألقى أسلافهم أخيهم يوسف في الجب بدافع قيم الفؤاد الشريرة من خوفٍ و حسدٍ وضغينة ، فقد توارث أكثرهم هذه القيم السلبية ، وزاد في تعزيزها في أنفسهم تحولهم عن عبادة الله إلى عبادة آلهة المصريين القدماء ، فصاروا كغيرهم من الوثنيين يبحثون عن الإله الملموس المحسوس الذي يشبع رغبات أفئدتهم ولا يتخيلون أنهم يعبدون رباً لا يرونه ولا يسمعونه ولا يلمسونه بأيديهم لأن أفئدتهم استولت على قلوبهم ، ولأن عقولهم نُحِّيَت وأُقصيَت وكُتِم صوتها.

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴿83﴾ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴿84﴾ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿85﴾ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿86﴾ يونس

فكان المؤمنون قلة من قوم موسى وبرغم ذلك فقد كان إيمانهم مشوباً بخوف من فرعون وجنوده ، ولو قارنَّا إيمانُ قوم موسى بإيمانِ السحرة لاستقرّ لدينا بأن إيمان السحرة بعد ما تبين لهم الحق كان في غاية العلو والثقة والقوة فلم يفتنهم عذاب فرعون ولم تثنيهم خشية من ألم أو معاناة أو قسوة عن الثبات على الدين الحق.

وتخبرنا الآيات وتصور لنا موسى ولبثه في مصر زمنا ليس بالقصير كان فيه يدعو قومه لينتشلهم من الكفر وكذلك يدعو فرعون وقومه سعياً في هدايتهم وذلك من قوله تعالى :

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿130﴾ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿131﴾ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿132﴾ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴿133﴾ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ﴿134﴾ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴿135﴾ الأعراف

فلم يكن إذاً تكذيبهم اشتباهاً أو ميلاً لحق يرونه أولى مما اتى به موسى ، بل كان استكباراً وعلوا في الارض وعناداً وتكذيباً برغم أنهم يعلمون بأن ما جاء به موسى هو الحق ، يقول تعالى :

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿14﴾النمل

فؤاد فرعون يطلب الإله المحسوس

قلنا أن الفؤاد متعلق بالماديات والمحسوسات والملموسات ، فكانت آلهة آل فرعون آلهة محسوسة فَكَبُر عليهم أن يؤمنوا بربٍّ لا يرونه ، ولكن فرعون قد أيقن بوجود الله وظن أن ما ينقصه هو أن يرى هذا الرب فسعى لبلوغ السماء ليرى الله (تعالى عما يصفون) :

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ﴿36﴾ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴿37﴾ غافر

وهكذا فإن هذا الشاهد من أظهر الشواهد على دور الفؤاد في إضلال الناس ، وأن فقدان التوازن بين العقل والفؤاد وضرورة تسيد العقل على الفؤاد ليكون القلب قلباً سليماً غير منقلبٍ لسوء.

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿30﴾ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿31﴾ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿32﴾ غافر

إن الخوف أمر مطلوب ولكن في إطار العقل وتحت سلطته – كما هو الحال مؤمن آل فرعون- ، حينئذٍ يكون خوفاً محموداً مطلوباً ، وكل خوف يتجاوز العقل ويتجاهله فإنه يعد من انفلاتات الفؤاد وشطحاته.

استقرار الإيمان ونموّه في نفس مؤمن آل فرعون

إن حال مؤمن آل فرعون من الدلائل والشواهد على التطور الطبيعي والإيجابي لمسألة الإيمان ، فإن الإيمان قد يبدأ مترافقاً مع الخوف والكتمان كما في حال هذا الرجل يقول تعالى :

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴿28﴾ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿29﴾ غافر

ثم أنه افصح عن إيمانه بعد أن تطورت القيمة العقلية على حساب قيم الفؤاد فاختفت الخشية وتلاشى الخوف في نفسه وجهر بالإيمان ، فانطبع قلبه بالإيمان لأنه قدم العقل وأعلاه  وأبعد الفؤاد وأقصاه ، بينما طُبٍعَ على قلوب المجرمين عندما اعلوا أفئدتهم وأقصوا عقولهم فكان الكفر طبعاً من طباعهم:

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿30﴾ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴿31﴾ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿32﴾ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿33﴾ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴿34﴾ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴿35﴾ غافر

ثم ارتقت نفسه وسما عقله وصار يدعو الى الله ، فكان انتقاله من الكفر إلى الكتمان ثم من الكتمان إلى الجهر ، ثم من الجهر إلى الدعوة ،وقرر مسألة الإيمان التي لا تتأتى إلا في ظل اعتلاء العقل ، يقول تعالى :

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴿38﴾ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴿39﴾ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿40﴾ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴿41﴾ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴿42﴾ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿43﴾ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿44﴾فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴿45﴾ غافر

الخروج العظيم

إن مرحلة الخروج من أرض مصر يحيط بها مواطن عديدة تكشف أحوال القلوب والعقول والأفئدة ، ولعلنا في هذا الجزء نستعرض تلك الحوادث :

فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴿60﴾ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿61﴾ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿62﴾ الشعراء

فلما تراءى الجمعان أصبح كل جمعٍ يرى الجمعَ الآخر ، حينئذٍ استيقظ الفؤاد المشتعل بالخوف والرعب ، ودخل اليأس قلوب الهاربين وهم يرون البحر أمامهم والعدو من خلفهم يقترب بسرعة فقالوا (إنا لمدركون) فأجابهم موسى عليه السلام بالنفي (كلا) رغمَ الواقع والوضع العام المنظور والمشاهد بالعين والواقع المعاش الذي يقول أنهم مدركون ، ولكن موسى حيّد فؤادهُ واتّبع عقله الذي استنتج منه أن رباً عظيماً تولاه ووعده بالنجاة بقوله (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) فَنجَهْلُ ماهيَّة السلطان الذي سيمنعُ وصولهم اليه والى قومه ولكن موسى كان واثقاً من وعد الله فعقله يؤازره ، وفؤاده يؤيسه من النجاة ، فاتبع عقله الذي رباه على عسف الفؤاد والتقدم عليه وأقصى فؤاده.

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴿63﴾ الشعراء

فأرشده الله لمالا يخطر على قلب بشر ولا يستوعبه فؤاد مخلوق ولكن العقل يستوعب ذلك إذ لا حدَّ لقدرة الله ، هذا الرب العظيم الذي لا يمكن إدراكه بالفؤاد ولكنه يدرك بالعقل لأن الفؤاد محدود فيما يرى ويسمح ويشعر ولكن العقل لا حد لقدرته ومدى إدراكاته.

وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ﴿65﴾ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴿66﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿67﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿68﴾ الشعراء

وما كان أكثر قوم موسى مؤمنين ، فكانت أفئدتهم لا تتصور وجود مهرب من فرعون وقومه لأنها تتعامل مع الواقع المرئي ، ولكن عقل موسى ومن معه من القلة المؤمنة كانوا يثقون بوعد الله بغض النظر عن طريقة النجاة وكيفيتها.

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿90﴾ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿91﴾ يونس

ولو أنه حكم عقله وأوثق فؤاده لآمن قبل أن يرى بعينيه ويشعر بالماء يغمر وجهه وجسده، فلما كان فؤاد فرعون متحكماً ، وعقله مغيباً فقد كان قلبه غافلاً منثنياً عن الحق إلى الظلال تعاظمت في قلبه كل معاني الكبر والعناد والغضب والحقد والقسوة واشتعلت في نفسه حتى أكلتها وأرودتها جهنم .

وكذلك الكثير من الناس والكثير من المسلمين اليوم الذين يعتنقون الإسلام فارغاً من الإيمان حتى إذا أتاهم الموت تضاءلت أفئدتهم وتعاظمت عقولهم ومالت قلوبهم نحو الحق ولكن بعد فوات الأوان.

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴿39﴾ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ ﴿41﴾ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴿42﴾ القصص

وقرر بنا أن وقوع العذاب والغضب إنما هو مرهون بما في الأنفس ، فإن مالت عن الحق وأقصت العقل وقدمت الفؤاد ومال القلب ناحية الشهوة فقد استحق الحرمان والانتقام ، إن قيم الإيمان بالله لا سبيل لحصولها بالفؤاد ، بل لا يكون استقرارها في النفس إلا بالعقل ، والعقل والقلب والفؤاد مكنونة في النفس وانقلاب الفطرة وتقديم الفؤاد على العقل هو تغيير لما في النفس يقول تعالى:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿53﴾ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴿54﴾ الأنفال

شعبٌ عنيد صلب الرقبة

قلنا أنَّ قومَ مُوسى ألِفوا تقديم الفؤاد على العقل ، فكانت بيئتهم المصريّة الوثنيّة تحتم عليهم -في ظنهم- أن الإله لا بدَّ أن يكون مرئياً ملموساً ، محسوساً ، وإن كانَ مسموعاً فخيرٌ وزيادة ، لأن أفئدتهم المشتعلة لا يهدئها ويروي عطشها الروحي سوى ما ينفذ من الحواس من خلال الأبصار والأسماع والأحاسيس ، فكانت فكرة الرب المتعالِ القدير الذي تستحيل رؤيته لِعِظَمِهِ وتعاليه عن المادة والجسم والحيّز ، كانت فكرة منبوذة مرفوضة ، ولذلك كانت معجزات موسى وآياته حسية لتشبع شهوات الفؤاد المادية، ولكن برغم ذلك فقد بقي الفؤاد مسيطراً على قلوبهم فكان أول طلب بعد النجاة هو عبادةُ وثنٍ لإشباع قلوبهم المريضة :

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴿138﴾ إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿139﴾ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿140﴾ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿141﴾ الأعراف

فأخذ يذكِّرهم بالأمس القريب حين أنجاهم الله تعالى بآية عظيمة عجيبة وفضلهم على العالمين فخاطب عقولهم ولكنها كانت غائبة واستمرت أفئدتهم تطلب الإله المحسوس المرئي ولا تقتنع بإلهٍ غائبٍ لا يرونه بأعينهم ولا يسمعونه بأذانهم.

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ﴿148﴾ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿149﴾ الأعراف

الطبع يغلب التطبع ، فقوم موسى لا تزال قلوبهم منقلبة الفطرة ، ولم يتراجعوا عن جريمتهم وكفرهم إلا عند إيقاظ قيمة العقل في أنفسهم (أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ؟؟ ) وقد كانوا توارثوا وثنية العجل وعبادته من سالف أيامهم الطويلة بين المصريين.

سورة البقرة وعلاقتها بجذور الوثنية الاسرائيلية

لقد بقيت أفئدةُ قومِ موسى مقدمةٌ على عقولهم ، فما أن يخرجوا من معصيةٍ وكفر حتى يدخلوا في آخر والقاسم المشترك بين كل تلك الطّوام التي يرتكبونها هو تقديم الفؤاد وتنحية العقل ، فكانت قلوبهم مليئة بالشك والريب والنفاق.

وقد أخضعهم الربُّ  جل ثناؤه لاختبارات عديدة ليعلم أيهم لا يزال قلبه متشرباً للوثنية مغيباً للعقل والإيمان من نفسه فأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فلما ذبحوها وأودع الله طاقة الحياة في بعضها يحيي بها الأموات انقسموا إلى فريقين ، فريق تعامل مع هذه الآية العظيمة أنها دليل على قدسية العجل وسلالة البقر بشكل عام وأولئك ممن قال تعالى فيهم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أما المؤمنين حقاً فقالوا سبحان من أودع في أجزاء هذه البقرة ما يحيي به الله الموتى ، فرد القدرة إلى الله وليس للعجل ، فهنا الفرق بين من قدم العقل وبين من قدم الفؤاد بحثاً عن المحسوسات ، فكان اختيار البقرة دون سواها اختياراً مقصوداً لاختبار مدى تحول قلوبهم عن كفرهم القديم وتمحيصاً للناس ليعرف من لا يزال عقله غائباً تحت فؤاده المشتعل.

فؤاد موسى (عليه السلام) يشتعل مجدداً

لقد تجدد اشتعال فؤاد موسى وتشوقه للرؤية المجردة لله تعالى ذاته فسأل الله  الرؤية ليس شكاً في وجود الله بل شوقاً لرؤيته ، ولكننا نستنتج من ذلك مدى اعتلاج الصراع بين عقل موسى وفؤاده ، يقول اللهُ تعالى :

وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿143﴾

فأراه الله صورة من تجليه -جلت قدرته- للجبل الذي لا يملك عقلاً ولا فؤاداً كيف جعله التجلي دكاً ، فكيف لو تجلى لموسى بحواسه وعقله وقلبه وفؤاده؟ فكان ذلك كافياً ليدرك موسى عظمة الله وتعذر استيعاب قلوب الناس وقدرتهم على رؤيته كما يرون الأجسام ، فقد أرى اللهُ موسى أثراً لقدرة الله تغني عن رؤية ذاته العليَّة لغرض التصديق والايمان.

لما عاد موسى من موعده مع ربه من جبل الطور وجد قومه يعكفون على العجل وكان الله قد أخبره بما كان منهم فاشتعل فؤاده غضباً جعله يلقي الألواح بما فيها من كتب مقدسة ، ويجر أخيه بلحيته ورأسه فخرج عن شعوره وفقد السيطرة على نفسه لما شاهد من فعل قومه برغم ما افضل الله عليهم من رعاية وتكريم.

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ﴿86﴾ طه

ويقول تعالى :

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿150﴾ الأعراف

وقد لفت الله أنظارنا لأعظم ما كان من موسى  من نتائج الغضب وهو إلقاء الألواح ثم لفت أنظارنا لأعظم نتائج انطفاء جذوة الغضب في نفس موسى ، وهو اخذه للألواح ورفعها بعد أن كان قد ألقاها تحت وطأة الغضب ، ثم لما أدرك أن أخيه قد غُلِب على أمره استغفر الله ما كان منه فقال :

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿151﴾ الاعراف

ولو تأملنا الموقف برمته لوجدنا الفؤاد هو محرك الشر فيه ، فقوم موسى تحولوا لعبادة العجل الملموس بفعل أفئدتهم التي قدموها على عقولهم فانسلخوا من إيمانهم  ، و تأثر هارونُ بفؤادهِ (قيمة الخوف) عندما عبد قومه العجل خوفاً من اقدامهم على قتله ، و طغى الفؤاد على سلوك موسى فأشعل الغضب في نفسه عندما شاهد هذه الفعلة الشنيعة وموقف هارون منها ولكنه سرعان ما أطفأ فؤاده واستعاد عقله زمام قيادة الموقف.

الدليل المادي لإشباع غرائزهم

يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴿153﴾ النساء

وهنا يتبين لنا كيف أن فكرة الإله المدرك بالعقل لم تكن مقبولة عند الغالب من بني إسرائيل في كل الأحوال ، بل وعند كفار قريش ، فكل أهل الأوثان لجأوا لعبادة الأجسام المحسوسة لأنهم عطلوا عقولهم وحكموا أفئدتهم فتشابهوا فيما بينهم في موقفهم من الإله ومبدأ الإيمان عندهم ، فلا تشبع غرائزهم ولا تهدأ أفئدتهم إلا بما يرونه ويسمعونه عجلا أو كتاباً أو صنماً.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿55﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿56﴾ البقرة

برغم أن كل ما جاء به موسى من معجزات كانت مادية محسوسة ومرئية ومعلومة ، وكانت كافية ليستقر في قلوبهم أن ربّاً قويّاً عليّاً وحده ُقادرٌ على فعل تلك الآيات ولكن ذلك لم يكفهم فبحثوا عما وراء ذلك وهو رؤية الله تعالى عما يصفون ، فهكذا نستنتج أن من يقدم فؤاده دائما لا يجدي كل دليل مادي تأتي به إليه فلا بد أن يتخلى عن إعلاء فؤاده وإقصاء عقله أولاً حتى يرتقي للآدمية المكرمة التي رفع الله بها بني آدم عمن سواهم من الخلق.

هاهم يرون آية عظيمة أخرى فيرفع الجبل فوقهم كأنه ظلة ويهددهم ويأمرهم بالامتثال للكتاب وشريعة الله وفرضه ، ولكن برغم ذلك استمرت أفئدتهم تعود للاشتعال من جديد.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿63﴾ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿64﴾ البقرة

فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

إن زيغ القلب هو تحوّله من تحكيم العقل إلى تحكيم الفؤاد وتقديمه ، والله تعالى أزاغ قلوبهم ليس لأنه يريد إضلالهم بل لأنهم يحملون الزيغ في صدورهم ، فلما جعل  سرَّ الحياة في أعضاء البقرة ميّز الوثنيين عن المؤمنين فأزاغ قلوب الزائغين وثبت العقلاء المؤمنين.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿5﴾ الصف.

إن زيغ القلب من العقل إلى الفؤاد ينقله من الإيمان بالغيب إلى الكفر به والإيمان فقط بما يرى ويسمع دون غيره ، لذلك فعند القتال تجد أهل الزيغ أجبن المقاتلين لأن وعدهم لا يُدْرَكُ بالفؤاد والجنة التي وعد الله المجاهدين لا يرونها وبالتالي فلا يؤمنون إلا بما يرون وهذا كان حال المنافقين في المدينة ، وقوم موسى يجسدون مثالاً حياً على ذلك :

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿21﴾ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴿22﴾ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿23﴾ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿24﴾ المائدة

وهكذا استمرأوا الخوَرَ والضَّعف والجبن وكانوا قوماً بوراً ومردُّ ذلك لإقصائهم عقولهم وتقديمهم أفئدتهم ، وقد استمرَّ هذا الضعف والجبن في أسلافهم ، فتجدهم لا يقدرون على مقاومة أفئدتهم ولا يستطيعون السيطرة على شهواتهم ، فهؤلاء جنود طالوت يستقبلون الأمر بعدم الشرب من النهر أمراً من الله فخالفوا كلهم إلا قليل منهم:

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿249﴾ البقرة

موسى  والخضر ، واشتعال الفؤاد

إن في قصة موسى  والخضر أظهر الأدلة على الفؤاد ومتعلقاته الحسية السفلية، والعقل ومتعلقاته اليقينية العلوية ، وقد جعل ربنا تعالت ذاته من هذا الموقف العجيب بين موسى والخضر درساً لعبده موسى ليعقل فؤاده ويقضي بالعقل دوماً في كل أموره، هذا العقل الذي لولاه لما أدركنا الحقائق الكبرى وأولها وجود الله تعالى ، فبين لعبده من جملة ما بينه تعالى ما ينفي أن كل ما يرى بالعين ويسمع بالأذن ويحس بالحواس يمكن أن يبنى عليه موقف أو حكم ، فقد ترى ضراء وهي في حقيقتها خير ، وقد ترى سراء وهي في حقيقتها شر ، فليس كل ما يلهب فؤادك غيضاً وحزناً هو شر ، وليس كل ما يسر عينك وفؤادك ويفرحك خير والحاكم على ذلك كله هو العقل ، العقل المستضيء بقدرة الله والمستحضر لوجوده بدون رؤية عينية بل بما هو أقوى من ذلك وأثبت وهو اليقين العقلي بناء على ما نعلم عنه تعالى من قدرة مطلقة وحكمة بالغة.

ولي في مسألة الخضر رأيٌ أراهُ وجيهاً وهو أن الخضر كان ملكاً أرسله الله لأفضل بني آدم في زمنه وهو موسى عليه السلام ، فلو كان بشراً لكان أحق من موسى بالرسالة ولكن الله علمنا أنه لو أرسل ملكاً لجعله رجلاً ، وذلك ما حصل مع نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام حين جاءه جبريل بهيئة رجل لتعليم المسلمين أمر دينهم ، أو كهاروت وماروت مثلا ، فالواجب التوعوي التعليمي في زمن الأنبياء يجعله الله على أيدي الملائكة ويسنده إليهم في مثل حالة الخضر.

ولو تتبعنا مواقف موسى والخضر كالقتل مثلاً ، فلو كان من بني آدم لاستحق القصاص في شريعة موسى ، ولكن طالما كان مَلَكاً فلا يشمله قصاص أو حكم لأنه أصلا خارج الحكم البشري.

ولكن المهم في مقامنا هذا هو تبيان العبر في قصة موسى والخضر والتي أراها في مجملها تتحدث عن علاقة الفؤاد بالعقل ، والتقائهما ومصارعة أحدهما الآخر ، وكيف أن الله  أدَّب عبده موسى ودرَّبه على تقديم عقله على فؤاده وجعل أمامه من الآيات ما يثني الفؤاد ويقصيه ويقيم العقل ويعليه ، وقد قلنا أن قلب ابن آدم بني إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، وهنا يمكن صرف المعنى بالتقلب لابن آدم ، فله أن ينقلب لاتباع فؤاده وله أن ينقلب باتجاه عقله ، فإن شاء أقام على الحق باتباع العقل وإن شاء زاغ إلى الباطل باتباع الفؤاد.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴿60﴾ الكهف

وهنا ملمح لطيف ، فبالنظر للرمزية التي حفلت بها القصة وما حصل فيها من عبر فقد تكون أول عبرة أن لقاءه مع الخضر تقرر عند مجمع البحرين ، وهذه صورة رمزية لمجمع العقل والفؤاد ، فالبحرين المختلفين (النهر ، والبحر) بينهما برزخ لا يبغي أحدهما على الآخر ، كما هو الحال في علاقة العقل والفؤاد فلكل منهما وظيفة ولكن البحر (العقل) أكبر وأوسع من الفؤاد (النهر) ، فالأكبر يعلو الأصغر ، ولا يطغى ماء الأصغر على الأكبر ، كما لا ينبغي أن يطغى الفؤاد على العقل ، وهذه أولى الإشارات التي أرسلها الله لعبده موسى.

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴿62﴾ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴿63﴾ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴿64﴾ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴿65﴾ الكهف.

وهذه إشارةٌ ثانيةٌ على أن هدفك ووجهتك قد تبلغها بما تظن أنه شرّ فليس كل ما يراه فؤادك ضراء يكون شراً فقد يكون الخير فيما تكره نفسك ، فها أنت يا موسى ما كان بلوغك لغايتك إلا بتحقق النسيان والفقدان.

قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴿69﴾ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴿70﴾ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴿71﴾ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴿72﴾ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴿73﴾ الكهف

فكان الموقف الأول أن موسى تعهَّدَ بأمْرٍ وعَقَلَهُ ووَعاه ، ولكنْ عندما شاهد بعينيه السفينة تُخرق ثارَ فؤاده واعتلتْ عاطفتهُ على عَقْلِه واحتجَّ على الفعلِ وأنساهُ فؤادهُ ما قطعهُ على نفسهِ من عهد ، وهذه أولُ الدّروس ولكنهُ لم يفسّر له منها شيئاً حتى تجتمع لهُ العبَرُ كلها في موقف أخير.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ﴿74﴾ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴿75﴾ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا ﴿76﴾ الكهف

وفي الموقف الثاني وبعد أن كبت موسى فؤاده وقدم عقله وتعهد بعدم تكرار ما كان منه جمح فؤاده وانتفض مرة أخرى وقيّد عقله وحيَّده وأقصاهُ حين شاهدَ غلاماً بريئاً يقتلُ بلا ذنب ، فنسيَ مرةً أخرى ما كان قد تعهد به من امتثال لأمر معلمه.

فلم يفسر الخضر ما حدث ولكنه ذكره بتعهده الذي تعهده ، فاعتذر ثانيةً وتعهد بأن تكرار الاعتراض وتقديم الفؤاد على العقل يجعل الفراق واجباً لأن الالتزام بالعهد متعذر.

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴿77﴾ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴿78﴾ الكهف

إن الصبر قيمة عقلية معرَّضَةٌ للفقدان والغياب حين يعتلي الفؤاد ، لذلك فقد أثنى ربنا جل جلاله على الصبر والصابرين في مواضع عديدة بلغت 69 موضعاً في كتاب الله وقد رأى نبي الله موسى  من الوقائع المُدْلهِمِّة مالم يستطع عليها صبراً ، فلما نبأه الخضر بما كان من خبر أهل السفينة ، والغلام وأهل القرية كان ذلك درساً بليغاً في تقديم العقل و إعلاؤه على الفؤاد ، بقيم الخير العقلية كالصبر والإيمان بالغيب والتسليم للقضاء والتصديق بالقدر وكل القيم التي لا يستسيغها الفؤاد ولا يقبلها.

وهكذاً رأينا كيف أن موسى  منذ أن ولد وهو في صراعٍ بين عقلهِ وفؤاده ، ولكن الله برغم ما كان منه من خضوع لفؤاده في أحايين كثيرة فقد علم عميق إيمانه وتسليمه واستسلامه لله فكان يرعاه ويعلمه ويكلمه ويؤيده لأنه عواد للحق تواب لله  مدركٌ لحقيقة الكون .

اختطاف مصطلح العقل وخنوع الأمة

لقد أثنى ربُّنا جلَّ شأنه على العقل في كتابه الكريم ، وحاكَم المعاندين إلى عقولِهم ، فكان العقل هو نقطة الضوء الوحيدة التي تشع في ذهن الملحد والكافر فيعود أدراجهُ تائباً مستسلما لدين الله ، وقد ذُكِر العقل في كتاب الله تعالى تسعٌ وأربعون مرة ، كلها على سبيل التكريم والثناء ، بينما توعد الأفئدة بالنار والعذاب فقال جل من قائل:

كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴿4﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴿5﴾ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴿6﴾ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴿7﴾ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ﴿8﴾ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ﴿9﴾ الهمزة

ولست في باب تعداد مواضع الثناء على العقل وذم الأفئدة فهي أكثر من أن تذكر وبإمكان القارئ الكريم مراجعتها ، ولكن عندما غابت مفاهيم العقل والقلب والفؤاد وقعنا في فخِّ قاتِل نصبه لنا الملحدون.

لقد ادعى الملحدون بشبهاتهم وأسئلتهم وحججهم التي ترتكز في أصلها على الفؤاد وليس لها من العقل نصيب ، ادعوا بأن هذه أسئلة وشبهات عقلانية ، وظهرت أخبثُ فئةٍ عرفها عالم الكفر والإلحاد وهم من يسمون بالعقلانيين ، وهم في حقيقتهم لو أنهم أخضعوا اسئلتهم لعقولهم لأدركوا وجود الله ، ولكنهم خضعوا لأفئدتهم وطالبوا بالرؤية والسماع والمحسوسات من الدلائل حتى يصدقوا دعوى المسلمين ، وهم في حقيقتهم لا يختلفون عن فرعون وقومه ، وقوم عاد وثمود ولا يختلفون عن عصاة بني اسرائيل وكل ضال منحرف فكلهم غيبوا عقولهم وقدموا أفئدتهم وأخضعوا قلوبهم لها.

ولكن المشكلة ليست هنا ، بل في خنوع الأمة وسيرها في ركاب أعدائها ، فهم يضعون قواعد اللعبة ويطلبون منا النزال بشروطهم ومنطقهم المعوج ، فقبلنا شرطهم واعتبرنا أن ما يحتكمون إليه هو فعلا العقل ، وشرعنا في تسويد الصحائف بذم العقل وسبه في مفارقة مخزية مخجلة فيها من الغباء ما يضحك الثكلى ، وهم يعلمون أو لا يعلمون بأنهم يناقضون كتابهم ودينهم ويخضعون بأسلوب أخرق لأفكار تسمية الاشياء بغير اسمائها ، فهل وعينا ما يدون حولنا ، وهل علمنا الآن سر حيرتنا وضياع بوصلتنا ؟؟

إن واجبنا اليوم هو تبني وفهم هذا الفرق بين العقل والفؤاد والاصطلاح على تبيان التعريفات الجامعة لتلك المفاهيم ، لتكون هي منطلقنا في النقاش مع المعاندين والملحدين والضالين.

يجب أن ندرك بأن تعريفات العقل والقلب والفؤاد في التراث الإسلامي ليست نتاج النظر في كتاب الله واستجلاؤه وفهم المراد بالعقل من خلال النص القرآني بل هو نتاج مراجعة كتب المنطق والفلسفة ومحاولة تحوير بعض جزئيات فهمهم لتشابه وتساير في ظاهرها المفاهيم الإسلامية أو على الأقل لا تتناقض معها في الظاه طبعاً ، وهذا الخطأ القاتل الذي وضعنا في موقف ضعف عند الدخول في حِجَاجٍ عقدي مع أولئك.

وأوجه من خلال هذه الدراسة نداء لعلماء الأمة ومفكريها لإيلاء هذه النقطة اهتماماً موازياً ومكافئاً لأهميتها ، وسوف ننطلق بإذن الله لطرح دراسات موضوعية أخرى كما فعلنا في قصة موسى عليه السلام لنؤكد على الفرق القرآني بين العقل والفؤاد.

نرجو من الله السداد والعون والتوفيق وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمدلله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »