بسم الله الرحمن الرحيم
حَقِيْقَةُ هَارُوْتَ وَمَارُوْتَ فِيْ ضَوْءِ السِّياَقِ القُرْآنِيْ
-
الآياتُ الكريمة موضع الدراسة:
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) البقرة
-
مقدمة:
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
لاشك أن القصة الواردة في الآية الكريمة الثانية بعد المائة من سورة البقرة تثير تساؤلات عميقة وقضايا إيمانية دقيقة مهما تجاهلنا ما يختلجُ في أنفسنا تجاهها فإنه تبقى في النفس منها ما يبقى ، فمفهومُ الآية ِالظاهرِ أنَّ هاروتَ وماروتَ كانا مَلَكيْن من الملائكةِ يعلِّمان الناس السِّحر ، وفي نفس الآية نَسَبَ تعليم السحر إلى الشياطين (وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ولا شك أن السِّحرَ كفر فكيف يرسل الله ملكين ليعلمان الناس الكفر وهو الهادي دوماً إلى سواء السبيل ؟؟ ، وكيف يكون هذا العمل منسوباً لملكين من الملائكة وهم الذين لا يختارون بل يطيعون على الدوام فهم (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
لقد تعرضت هذه القصة لتفسيرات ورؤى عديدة أقحمت فيها الإسرائيليات الباطلة والمنقولات الواهنة والتفسيرات المخالفة لسياق ومقتضى الآية الكريمة ، ولم أقع على ما يستحضر آيات القرآن الكريم ليسترشد بها فيما يقول ، ولا يمكن في ما أعتقد أن تفهم الآية بمعزل على السياق القصصي والسردي القرآني في مواضع القرآن المختلفة ، كما أن توظيف الإسرائيليات في هذا الموضع بالذات وفي هذه القصة سقطة كبيرة وخطأ بيِّن فبني إسرائيل هنا موضع اتهام بالتحريف والتزوير والكذب في هذه الآية فكيف يحتج بقولهم لتفسيرها ؟؟.
وفي هذا البحث انجلى فهمي الخاص عمَّا تنطوي عليه الآيات بما لا يخالف ظاهرها ولا يعسف مفهوم النص إلى مرمىً بعيد ويتفق مع سنن الله تعالى حتى يستقر الفهم السليم ويتميز عن سواه ، وسأبدأ ببيان مواطن التناقض والانحراف في السائد من التفاسير والتأويلات التي نسب معنى الآية إليها ومن ثم أبدأ في سرد تاريخي للجوانب التي تمس هذه القصة في تاريخ سليمان عليه السلام بنقاط ضوء حتى تصل بنا وتقودنا لمفهوم هذه الآية بناءً على الآيات الكريمة التي سنسترشد بها بإذن الله.
ومن ثم ننتقل إلى تأمل الآية ومفرداتها وربط حقائقها بعضها البعض والتأويل الذي أراه متفقاً ومتسقاً مع مقتضى الآية الكريمة وهو ما نختم به هذا المقال.
-
بعض ما اشتُهِر في تأويل الآية الكريمة:
قبل أن نبدأ في ما اشتهر من تأويلات لهذه الآية فقد لاحظت أن كثير ممن تصدى لشرحها وتأويلها لم يحملها على ظاهر النص بل استعان بنصوص إسرائيلية أو تأويلات غريبة ليحرف الآية عن مفهومها الظاهر ، ومن تلك التأويلات :
أولها : القول بأن “ما” للجحد أي : لم ينزل الله على هاروت وماروت سحراً.
أقول: ولكن توجيه ذلك لا يستقيم مع سياق الآية وتقديرها ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما انزل على الملكين ببابل) ودليل ذلك تثنية قوله (يعلِّمان) أي الملكين وبذلك يكون هذا القول مردود بسياق الآية.
ثانيها: القول بإثبات نزول السحر على الملكين وتعليمهما وتعذيبهما لقاء ذلك : قال قتادة والزهري عن عبد الله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كانا ملكين من الملائكة ، فأُهبِطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم . قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر ، قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : “إنما نحن فتنة فلا تكفر“.
أقول : وهذا قول باطل في حق ملائكة كرام لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولم يعرف في كتاب الله أن الله أنزل ملائكة تحكم بين الناس أو أرسل ملائكة من غير جنس البشر تقوم فيهم مقام الرسل وكيف يكون العصيان من الملائكة وهم لا ينبغي لهم العصيان وليس لديهم ارادة الاختيار والتمييز أصلا فهم مجبولين على الطاعة فقط.
ثالثها : عن قتادة قوله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .
اقول : من أين له ذلك ؟؟ والله جل وعلا عطف السحر الذي تتلوه الشياطين على السحر الذي أنزل على الملكين فكانا في آخر الأمر سحراً يخرج من الملة (إنما نحن فتنة فلا تكفر).
رابعها : عن مجاهد : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) . وكان يقول : أما السحر ، فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان ، فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .
أقول : ولكن الله يقول (ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) أي يختارون من علوم السحر ما يفسدون به بين المرء وزوجه ولكن هذا لا يلزم أن كل ما لدى الملكين من علوم السحر حصراً في مسألة التفريق ، ولكن ذلك فيما يبدو غالب اختيار اليهود من علم الملكين.
خامسها: عن قتادة قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا : يا رب ، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا! قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض ، قال : فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء ، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن ، يقال لها : ” بيذخت ” فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله ، وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما [ ص: 428 ] للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه ، فلما وقعا فيما وقع من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك! كنت أعلم! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت ، وجعلا ببابل .
والقول عن عمير بن سعيد قال ، سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها ، فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء ، فمسخت كوكبا .
أقول : : تلك من الأخبار المنكرة التي لا يصح نقلها لما تحمله من مفاهيم تناقض ما علمناه في القرآن من شأن ملائكة السماء المكرمين الذين نزههم الله عن الفحش والسوء وعصمهم منه عصمة تكوينية فمثل تلك الأقوال لا يشك في بطلانها ثم أنها لا تناسب السياق القرآني الذي يخبرنا بنزول السحر علماً على الملكين وتحذيرهما لكل من يتعلمه بأن العمل به كفر ، وما جاء من أحاديث في شأن هاروت وماروت فضلا عن وهنها والحكم بوضعها فلم تتطرق إلى تعليم السحر مما يدل على اضطراب موضوع الرواية أصلا ومتناً.
سادسها : وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين . قال عطاء : تتلو تقرأ من التلاوة . وقال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا . وقال الطبري : اتبعوا بمعنى فضلوا .
أقول : لا يستقيم ذلك مع ما لسليمان عليه السلام من سلطان وملك عظيم وتسخير أن يدفن تحت مصلاه بخيانة كاتب له وهنا نحن نستنسخ طعن اليهود في سليمان عليه السلام ونعتقد انه تنزيها له وهو في حقيقته طعنٌ صريح في ملكه ونزاهة من ائتمنهم على شئونه ، كما أن القول بأن سليمان عليه السلام هو من دفن تلك الكتب تحت كرسيه طعناً في نبي الله فكيف تقع تحت يده كتب كهذه ولا يمزقها وينتقم ممن أحضرها بسلطة ملكة وقوته.
-
السياق التاريخي وتوجيه الآية الكريمة :
في هذا المطلب سنتتبع ملك سليمان منذ نشأته وحتى اندثاره ومنه إلى هذه الآية الكريمة :
– أورث الله الملك لسليمان بعد أبيه داود عليهما السلام وآتاه ملكاً لم يسبق لأحد مثله استجابة لدعوته إذ يقول تعالى : قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40) (ص).
– فأخضع الله جل وعلا الجان والشياطين تحت سطوة عبده سليمان عليه السلام فسخرهم لعمل ما يشاء يقول ربنا جلت قدرته : (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (13) سبأ ، وعاقب من يقصر منهم فصفدهم في الأغلال وكانت تلك الحقبة أسوأ حقبة مرت على شياطين الجن في التاريخ فقد أهان سليمان عصاتهم وعذبهم شر عذاب وكانوا في أحسن أحوالهم مسخرين يصنعون له الأسلحة والآنية والمصنوعات بأنواعها ولا يجرؤ أحدهم على الاعتراض أو التقصير وإلا فإن العذاب الشديد هو مصيره يقول تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) سبأ.
– من ذلك نتيقن ونعلم ما كان الشياطين يكنون من بغض شديد وعداء منقطع النظير لسليمان عليه السلام حتى شعروا بالحقارة والضعف حتى آخر لحظات عبوديتهم فيقول جل من قائل: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) سبأ . ومن ذلك نستنتج أن القول بأن تسخير الجان استمر في حكم رحبعام ابن سليمان غير دقيق ، فالآية تفيد بانتهاء التسخير باكتشافهم لموت سليمان عليه السلام ، ثم أن ملك سليمان لا ينبغي لأحد من بعده.
– من كان طليقاً حراً من عتاة الشياطين ومردة الجان لم يكونوا صامتين تجاه ما يتلقاه الشياطين من اهانة وتصفيد وعذاب على يد سليمان فأوحوا لفساق من بني اسرائيل طلاسم وتعاويذ وشعوذات يتلونها على ملك سليمان لعلها تستنقذ اخوانهم ويظهرون بها على ملك سليمان (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) الجن :6 ، ولا يتمكن الجان من إحداث تأثير على البشر ما لم يعينه على ذلك أحد منهم فكانت الشياطين تختار لشعوذاتها وتعاويذها من انحرف من قوم سليمان لتلاوة تلك التعاويذ لعلها تحقق مرادهم (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).
– مفهوم “التلاوة” أخص من مفهوم “القراءة” فالتلاوة نطق نصٍّ مكتوب أو محفوظ أُمليَ إملاءً واتباعه وتنفيذ ما فيه، والتَّالي لاينبغي أن يَكُون أعْلى من صاحب الكتاب درجة ومرتبة ، فالوزير يتلو أمر الوالي إذ ينطقه ويقرأه كما قيل بلا زيادة أو نقص ، ولكن لا يصح أن يقال أن الأمير يتلو شكاية الخادم مثلاً.
) والتالي الذي يتبع ما يقول القارئ ويكرره (يتلو) أيضاً ، والتلاوة تختلف عن القراءة العادية إذ يُرجى بتلاوتها حدوث أمر كحصول نفع أو وقوع ضر ، فمراسيم الملوك إذا تصدر وتقرأ يقال (تتلى) إذ أن قارئها ممليٌّ عليه ويتلو ما ينتج عنه حدوث نفع أو وقوع ضرر. والقرآن الكريم حين تلاوته فإننا نقرأ نصه كما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم وكما قرأه عليه من بعده أصحابه فكانت قراءة القرآن في أصلها تلاوة ، وقراءة القرآن يرجى بقراءتها برء من سقم أو حصول أجر أو إتباع أمر فلذا كانت قراءة القرآن تلاوة من هذا الباب أيضاً والتلاوة في أصلها الاتباع قال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا.
.
وما تتلو الشياطين (شياطين الجن أو شياطين الإنس) له دلالة الخضوع والاتباع ممن يتلو على ملك سليمان ما يتلو من شعوذات وطلاسم ، ويعلم بأن تلك الطلاسم ينبغي أن تقرأ بقواعد وطرق مخصوصة كما شرعها أصحابها من الشياطين واتبعهم في ذلك السحرة والمشعوذين قراءة مقننة حتى تؤتي تأثيرها الشيطاني فأسميت هنا تلاوة لاشتمالها على كل ذلك (استعلاء الشياطين على أوليائهم ، وخضوعهم بقرائتها كما هي رجاء إحداث ضرر لسليمان وملكه)
– ومن جراء فشلهم وبغضهم الشديد لسليمان أشاعوا من خلال أوليائهم ممن تبعهم من اليهود بأن ملك سليمان كان سحراً استعان به لتسخير الجان والشياطين والريح لسلطته كذباً وبهتاناً وزوراً على نبي الله وهدفهم تدمير عقيدة التوحيد وإحلال الشرك في نفوس الناس فنفى جل وعلا عنه ذلك (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) وكانوا في ذلك شديدي الإخلاص لأوليائهم من اليهود ولذلك فإن سحرهم من أشد السحر وأسوأه.
– لما قضى الله عليهم أن يدمر ملكهم على يد نبوخذ نصر ويسبي اليهود رقيقاً على بابل عاشوا حياة الذل والسخرة تحت حكم البابليين مئات السنين وفشا بينهم أخبار دولتهم العظيمة التي كان سليمان على قمتها فانتشر بينهم أن ما كان من قوة عند سليمان إنما كانت سحراً واستعانة بالجان والشياطين ، وهذا يدفع كثير من بني إسرائيل اعتبار ذلك السحر شرعياً جائزاً لا حرمة فيه طالما كان هذا فعل سليمان عليه السلام وكان هذا المفهوم الخطير ينذر بتحول الديانة التوحيدية إلى عبادة للشيطان من دون الله ، وكان في بابل أقدم المذاهب السحرية والشعوذات القائمة على النجوم وبني اسرائيل ما عاشوا بين قوم ضُلّال إلا ونافسوهم في الضلال والوثنية أو السِّحر والشعوذة كما حدث معهم في مصر قبل الخروج الأول وبعده عندما عبدوا العجل وكما حدث في السبي البابلي إذ تطلعوا إلى الوصول لدرجات متقدمة من السحر والاستعانة بغير الله لما تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة من الشر والشرك والكفر.
-
هاروت وماروت.
3 تعليقات
السلام عليكم
أتفق مع تحليلك و أودّ أن أضيف أن ذلك التعليم للسحر كان فتنة للبشر و امتحانا لهم إلى يوم الدين، فالله تعالى هو خالق كل شيء.
حياك الله أخي علي
نعم فالحق يعرف بالباطل ولولا وجود الشر لما سمي الخير خيرا ، وفقك الله وفتح علينا وعليكم
بعد ما بحثت كثيرا ، وكدت أفقد الأمل هداني الله الى بحثك ، رائع بارك الله فيكم .