وَجْهٌ فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا”

بسم الله الرحمن الرحيم

يقولُ الحقُّ سبحانهُ وتعالى:

{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ } [النحل:80]

 

تَوطِئةْ :

الحمدللهُ الذيْ أنزلََ خيرَ الكلامِ وعلَّمَ بالأقْلام ، وهَدانا إلى الإسْلام ، وأصلّي وَأسلّمُ على خيرِ منْ وطئَ الثرى سيدنا مُحمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ والتّابعينَ بإحْسانٍ إلى يومِ الدّين.

في هذهِ الدراسةِ المُوجزةِ سأطرقُ بإذنِ اللهِ باباً مُقابِلاً ووجهاً آخرَ لِفهمِ هذهِ الآيةِ الكريمةِ العظيمةِ منْ سورة النّحل ، التي افتتحت بتحذيرِ المخاطبينَ (أتى أمر الله) وقيل أن المراد بأمرِ اللِه السّاعة وقيلَ شَرائَعَهُ وأحْكامَه ، ثمَّ صَرفَ الأمرَ لتعدادِ نِعمِ اللهِ الكثيرةِ على خلقهِ وإخضاعهِ لكلِّ شيءٍ لخدمةِ بَنيْ آدمَ وتيسيِر معاشِهمْ ، ثمَّ تَحوَّلَ الخطابُ إلى الاحتجاجِ على عُصاةِ الخلقِ وبيانِ جُرمِهم وكفرِهم ، وَعادَ السِّياقُ بعدَ ذلكَ ليبينَ نِعم الله وآلاءه التي لا تعدُّ ولا تحصىَ منْ صورِ التَّسخيرِ ومنها هذا الموضعُ الذي نحنُ بصددِ قراءتهِ وتدبّره.

سَنَشرعُ في النَّظرِ في الآيةِ التي تُتوّجُ هَذا المبحث باستعراضِ أبرزِ أقوال المفسرينَ وفهمهمْ لهذهِ الآيةِ الكريمة ، ثمَّ نسوقُ عدداً مِن التّساؤلاتِ والاستشكالاتِ التي تَبْرزُ في مفهومِ الآيةِ مما شاع الذهاب إليهِ في التّفاسير باختلافها، وأخيراً سنعرضُ الفِهمَ الذي نَرى وَجاهتهُ وكيفَ أنّهُ يزيلُ مَا سلفَ من إشكالِ في الفِّهم السَّائد.

 

أبرزُ مَا جَاءَ فِيْ التَّفَاسِير :

سنضيءُ أفهامَنا بأقوالِ المفسرينَ الكِرامِ رحمهمُ اللهُ تعالى في أهمّ جَانبٍ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ وهو قولهُ تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) لنصلَ لِصورةٍ عامةٍ لمفهومٍ شاملٍ تواطأتْ عليهِ أفهامُ المُفسِّرينَ وآرائهم يخلص إلى فهمٍ واحدٍ يتبادرُ لذهنِ القارئ الَعجِلْ ، وهوَ أنَّ المُرادَ بقولهِ تعالى (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا) أي خيامُ الباديةِ وقِبابِ الأديْم وَما تتميَّزُ بهِ من سُهولةِ نَقِلها وَنَصبِها فِي الحلِّ وَالتِّرحَال ، وهو القولُ الذيْ وَجدنا لهُ وجهاً مُختلفاً سَنُبيّنَهُ بعدَ أقوالِ المفسّرين.

فالقرطبيُّ رحمهُ اللهُ ذكرَ في هذهِ الآيةِ عَشرَ مَسائل ، سنتقتصرُ منها على مَسائلِ الفهمِ ونتجاوزُ عَن مسائلِ الفقهِ فيْما يَجوزُ منَ الصُّوفِ والأديمِ من جلودِ الميتة والغَنَم وكذلك ما حُرّمَ لحمهُ كالخِنزيرِ ونحو ذلكَ منْ أمورِ الفقهِ فيقول :

“فيه عشر مسائل :

الأولى : قولهِ تعالى : (جعل لكم) معناهُ صَيَّرَ . وكلُّ ما علاكَ فأظلكَ فهو سقفٌ وسماء ، وكلُّ مَا أقلكَ فهوَ أرضٌ ، وكلُّ ما ستركَ من جهاتكَ الأربعُ فهوَ جدار ; فإذا انتظمت واتصلت فهوَ بيت . وهذهِ الآية فيها تعديدُ نعم الله – تعالى – على الناسِ في البيوت ، فذكرَ أولاً بيوتُ المدن وهيَ التي للإقامة الطويلة . وقوله : سكناً أي تسكنونَ فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ، وقد تتحرك فيهِ وتسكنَ في غيرهِ ; إلا أنَّ القولَ خرجَ على الغالب . وعدَّ هذا في جملةِ النِّعم فإنهُ لو شاءَ خلقَ العبدَ مضطرباً أبداً كالأفلاك لكانَ ذلكَ كما خلقَ وأراد ، لو خلقهُ ساكناً كالأرض لكانَ كما خلقَ وأراد ، ولكنهُ أوجدهُ خلقاً يتصرف للوجهين ، ويختلفُ حالهُ بينَ الحالتين ، وردّده كيفَ وأين . والسّكن مصدرٌ يوصفُ بهِ الواحدُ والجمع .

ثم ذكرَ – تعالى – بيوتُ النُّقلة والرُّحلة وهي :

الثانية : فقال وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها أي من الأنطاع والأدم . بيوتا يعني الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الأسفار .

يوم ظعنكم الظعن : سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ; ومنه قول عنترة :

ظعن الذين فراقهم أتوقع              وجرى ببينهم الغراب الأبقع

والظعن الهودج أيضا ; قال :

ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا            وإذ جادت بوشك البين غربان

وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر . وقيل : يحتمل أن يعم بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف ; لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها ; نحا إلى ذلك ابن سلام . وهو احتمال حسن ، ويكون قوله ومن أصوافها ابتداء كلام ، كأنه قال جعل أثاثا ; يريد الملابس والوطاء ، وغير ذلك ; قال الشاعر :

أهاجتك الظعائن يوم بانوا              بذي الزي الجميل من الأثاث

ويحتمل أن يريد بقوله من جلود الأنعام بيوت الأدم فقط كما قدمناه أولا . ويكون قوله ومن أصوافها عطفا على قوله من جلود الأنعام أي جعل بيوتا أيضا . قال ابن العربي : وهذا أمر انتشر في تلك الديار ، وعزبت عنه بلادنا ، فلا تضرب الأخبية عندنا إلا من الكتان والصوف ، وقد كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – قبة من أدم ، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة ، واعتلاء في الصنعة ، وحسنا في البشرة ، ولم يعد ذلك – صلى الله عليه وسلم – ترفا ولا رآه سرفا ; لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه ، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان .” إنتهى كلامه رحمه الله

أما ابن جرير رحمه الله فقد قال فيها :

” يقول تعالى ذكره ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ ) أيها الناس، ( مِنْ بُيُوتِكُمْ ) التي هي من الحجر والمدر، ( سَكَنًا ) تسكنون أيام مقامكم في دوركم وبلادكم ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا ) وهي البيوت من الأنطاع والفساطيط من الشعر والصوف والوبر.( تَسْتَخِفُّونَهَا ) يقول: تستخفون حملها ونقلها، ( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) من بلادكم وأمصاركم لأسفاركم، ( وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ) في بلادكم وأمصاركم.( وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا ).” انتهى كلامه رحمه الله.

ومما قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في هذا الموضع :

وقد يكون المحيط بالبيت متّخذاً من أديم مدبوغ ويسمى القبّة ، أو من أثواب تُنْسج من وَبر أو شَعَر أو صُوف ويسمّى الخَيمة أو الخباءَ ، وكلّها يكون بشكل قريب من الهرميّ تلتقي شُقّتاه أو شُققه من أعلاه معتمدةً على عمود وتنحدر منه متّسعَة على شكل مخروط . وهذه بيوت الأعراب في البوادي أهل الإبل والغنم يتّخذونها لأنها أسعد لهم في انتجاعهم ، فينقلونها معهم إذا انتقلوا يتتبّعون مواقع الكَلأ لأنعامهم والكَمْأة لعَيشهم . وقد تقدّم ذكر البيت عند قوله تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } في سورة البقرة ( 125 ).

و { جَعَلَ } هنا بمعنى أوجد ، فتتعدّى إلى مفعول واحد .

والسَكَن : اسم بمعنى المسكون . والسكنى : مصدر سكن فلان البيتَ ، إذا جعله مقرّاً له ، وهو مشتقّ من السكون ، أي القرار .

وانتصب قوله تعالى : { سكناً } على المفعولية ل { جعل }.

وقوله : { من بيوتكم } بيان للسكن ، فتكون { من } بيانية ، أو تجعل ابتدائية ويكون الكلام من قبيل التجريد بتنزيل البيوت منزلة شيء آخر غير السكن ، كقولهم : لئن لقيت فلاناً لتلقينّ منه بحراً .

وأصل التركيب : والله جعل لكم بيوتكم سكنا .

وقيل : إن { سكناً } مصدر وهو قول ضعيف ، وعليه فيكون الامتنان بالإلهام الذي دلّ عليه السكون ، وتكون { من } ابتدائية ، لأن أول السكون يقع في البيوت .

وشمل البيوت هنا جميع أصنافها .

وخُصّ بالذّكر القباب والخيام في قوله تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } لأن القباب من أدم ، والخيام من منسوج الأوبار والأصواف والأشعار ، وهي ناشئة من الجلد ، لأن الجلد هو الإهاب بما عليه ، فإذا دبغ وأزيل منه الشّعر فهو الأديم .

وهذا امتنان خاص بالبيوت القابلة للانتقال والارتحال ، والبشر كلّهم لا يعدون أن يكونوا أهل قرى أو قبائل رحلاً .

والسين والتاء في { تستخفونها } للوجدان ، أي تجدونها خفيفة ، أي خفيفة المحمل حين ترحلون ، إذ يسهل نقضها من مواضعها وطيّها وحملها على الرواحل ، وحين تنيخون إناخة الإقامة في الموضع المنتقل إليه فيسهل ضربها وتوثيقها في الأرض .

والظعن بفتح الظاء والعين وتسكن العينُ ، وقد قرأه بالأول نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ، وبالثاني الباقون ، وهو السّفر .

وأطلق اليوم على الحين والزمن ، أي وقت سفركم .

والأثاث بفتح الهمزة اسم جمع للأشياء التي تفرش في البيوت من وسائد وبُسط وزرابيّ ، وكلها تنسج أو تحْشى بالأصواف والأشعار والأوبار .

والمتاع أعمّ من الأثاث ، فيشمل الأعدال والخُطُم والرحائل واللّبود والعُقُل .

إشكالاتٌ على المفهومِ السَّائد:

برغمِ أنَّ المفهومُ السَّائدُ المتبادرُ لذهنِ القارئ يَمضي للناظرِ في كتابِ اللهِ دونَ أنْ يلحظَ مَا يستوقفهُ ، إلا أنكَ ما إنْ تتدبرَ هذهِ الآيةِ الكريمةِ وتراجعُ بنيتها ومفرداتها حتى تبرزُ تساؤلاتٍ تجاهَ ما قرَّرَهُ مفسريْنَا – كما ظهرَ لي- ، ومنها :

أولاً :

لقدِ استُهَلَّتِ الآيةُ بالحديثِ عَن السَّكن في البيوت التي تشملُ كلَّ مَا يُطلقُ عليهِ بيتاً يسكنُ فيهِ الإنسانُ و يهدأ ويرتاحَ ويستتر، سواءً كان بيتاً من لبنٍ أو حجرٍ أو خيمةٍ من صوفٍ أو وبرٍ أو أديم ، فماذا يجعلُ السياقَ ينفصلُ في ذكرِ البيتِ فينصرفُ لخيامِ الأديمِ مكرراً ذكرَ البيوت مُباشرةً بعد ذكرها الوشيك في الجزءِ الأولِ منَ الآية ؟؟

ثانياً :

لأيِّ شيءٍ يشيرُ الضَّميرُ في قولهِ تعالى (تستخفّونها) هلْ يشيرُ الضميرُ هنا إلى البيوتِ أم لجلودِ الأنعام ؟؟

ثالثاً :

إنْ كانَ المرادُ بقولهِ تعالىَ (تستخفونها) يعني “البيوت” : تجدونها خفيفةَ الحملِ ، للإشارةِ لسهولةِ نقِلها ، فيُحملُ ذلكَ على الظَّعنِ وهو سفرُ الباديةُ وانتقالهم ، ولكنهُ قالَ (ويوم إقامتكم) أي تستخفونها عندَ ارتحالِكم وتستخفونها عندَ اقامتكم فكيف يكون ذلك ؟ ، بمعنى أننا نفهمُ ما في الأديمِ من سهولةِ الحملِ في الظعنِ والارتحالِ ولكنْ كيفَ يمكنُ الجمع بين الإقامة والاستخفاف ؟؟ ، فالمقيمُ لا يحملُ بيتَ الأديمِ في إقامتهِ حتى يكونَ في خفتهِ وسهولتهِ مزيّة ونعمةٌ كنعمةِ نقلها في حالِ السَّفر.

رابعاً :

بجانبِ أنَّ البيوتَ في أوّلِ الآيةِ تغني عَن أي ذكرٍ آخرٍ للبيوت ، فإنَّ بيوتَ الأديمِ المصنوعةِ منَ الجلدِ ليست سائدةً لا في حَضَرٍ ولا بادية ، فأهلُ الحواضرِ لا يبيتونَ في بيوتِ أديمْ ، وأهلُ الباديةِ اعتادوا أنْ يقيموا في بيوتٍ منَ الوبرِ والصُّوفِ يرتحلونَ بها ، ولمْ يعرفِ الأديم (الجلود) عندَ الأعرابِ بيوتاً إلا نادراً ، فالمنتظرُ أن تغطّي الآيةُ الكريمةُ الشائعُ عندَ الناسِ وتُغفِلُ النَّادرَ القليل ، وقد جاءَ في المفصّل في تاريخ العرب – الجزء الرابع عشر -ص226 : “ويدخل في الحرف التي تقوم على تحويل الجلد إلى سلع، مثل الأحذية وصنع القباب التي تضرب للملوك وللسادة وللأشراف أمارة على الرئاسة والسيادة. وتصبغ جلودها بلون أحمر في الغالب, وكانت غالية؛ لذلك لم يستعملها إلا أصحاب الجاه والمال. فكان سادة مكة إذا نزلوا منزلا ضربوا قبابًا من أدم، وكان حكام عكاظ والسادات الذين يحضرون السوق، يضربون لهم قبابًا، وأما سائر الناس، فيضربون لهم بيوت الشعر, وبيوت الشعر أرخص ثمنًا من قباب الأدم ”  انتهى .

فلم يكن اتخاذ بيوتاً من أدم إلا قباب لأشراف الناس وسادتهم لغلاء ثمنها ، فلا وجه لإيراد النادر في هذا الموضع وغالب الناس وعامتهم من مقصد الخطاب في الآية الكريمة لا ينتفعون بمثله.

خامساً :

الأصلُ في السكنى هوَ في القرى والمدن فالسكنى فيها باقيةٌ أصيلة ، أمّا سكنى الباديةِ فهيَ طارئةٌ متغيرة ، فلا وجهَ لإيرادها في الآيةِ الكريمة ، فقدْ صحَّ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  أنهُ قال : من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن. رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وصححه الألباني.

يقولُ النووي: (ولأنَّ أهل البادية، هم الأعراب ويغْلبُ فيهِمُ الجهلُ والجَفَاء، ولهذا جاء في الحديث: (مَنْ بَدَا جَفَا) والبادية والبدو – بمعنى وهو ما عَدَا – الحاضرة والعمران والنسبة إليها بدوي)، ويقول ابن كثير في تفسيره: (ولمَّا كانتِ الغلظةُ والجفاء في أهلِ البوادي لَمْ يبْعث اللهُ منهم رسولاً وإنما كانت البعثة من أهلِ القرى، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نُوحِي إِليهم من أهل القرى).

قال مالك: لا يؤم الأعرابي في حضر ولا سفر وإن كان أقرأهم، قال ابن حبيب لجهله بالسنن وغيره لنقص فرض الجمعة وفضل الجماعة. انتهى.

سادساً :

أنَّ الخطابَ في أصلهِ موجَّهٌ لأهلِ بُنيانٍ وحضارةٍ وليسَ لأهلِ ارتحالٍ وبداوة فكانَ حالُ المخاطبِ مَرعياً في الآيةِ وهُم كذلكَ الأغلبَ تلقياً للدعوة وهم كذلكَ اليوم.

الوَجهُ السَّديدُ وَالوَجْهُ البَعيْد :

أرى واللهُ تَعالى أعْلم أنَّ مَا جاءَ في أقوالِ المفسرينَ رحمهمُ اللهُ رأيٌ وَوَجهٌ ولو أنَّه بَعيد ، وأنَّ هُناكَ وجهٌ آخرَ لفهمِ هذهِ الآيةِ نقولُ فيهِ وباللهِ التوفيق :

تنقسمُ هذهِ الآيةِ المُبَارَكةِ إلى ثلاثةِ تراكيب مستقلة موضوعياً فَفِي الجُزءِ الأوَّلِ مِنَ الآيةِ يقولُ الحقّ تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) والجَعْلُ هنُا هُو التّصْيِيْر، وَالتّصييرُ يَكونُ بعدَ الخَلقِ ، فلا يُجْعَلُ الليلَ والنَّهار إلا بعدَ خلقِ الشّمسِ وَالقمر ، ولا يُجعَلُ السَّكنَ وَيَصيرْ إلاَّ بَعْدَ خَلقِ مَادّةِ صناعةِ البيتْ فإنْ أنتَ صَنعْتهُ بتيسرِ اللهِ لكَ وبتوفيقهِ كانَ جَعْلُ اللهِ حَاصِلاً وَوَاقِعَاً، فصُنْعُكَ لم يَكُنْ لولا خَلْقُ اللهِ وإلْهامِهِ لكَ.

أمّا الجُزءِ الثَّانِي فَيَقولُ جَلَّ شَأنه: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) تستخفّونها أيْ تَتِِّخُذونَ مِنْها أخْفافاً تَنْتعلوَنها فَتبيتُ فِيها أقْدَامِكم فَتقيها وُعُورَةُ الاْرضِ وَقَذرُ الطريقْ ، فالاستِخْفَافُ هنُا مِمَّا يَظهرُ لا يُرادُ بِه سهولةُ الحَمل ، كَمَا أنَّ البيوتَ لا يُرادُ بِها المَنَازلُ التي سَبقَ ذكرُها فِي التَّركيْبِ الأوّل مِن الآيةِ ، بلْ يُرادُ كَمَا اسْلَفنا والله أعلم الأخْفَافُ التي تَقِي الأقدامَ فِي الظَّعْنِ والسَّفَرِ الطَّويل ، وَفيْ الإقَامةِ وَالانتقالِ اليسير.

وَهَذا متحققٌ إلى يَومِنا هَذا فاْمتِنانُ اللهِ علىَ كُلِّ خَلقهِ على هذهِ الأرضِ تقريباً بِمَا يسَّرهُ لهم منَ اتِّخاذِ الخُفّ وَالحِذاءِ مِنْ الجُلُودِ فَتَكْونَ حافظةً للنَّاسِ مِنَ الأذى ، و بِها يَنتقلونَ ويظعنونَ ويقيمون ، وَلِنتصوّرَ أمْرَنا بِلا هذهِ النِّعمَةِ الجلَيْلةِ التيْ لاَ نُقيمُ لهَا وَزْناً وَلا نَتَدبَّر لُطْفُ اللهِ فِيْنا وإلهَامهِ لبنيْ آدمَ دونَ بقيةِ الخلقِ يتّخذونَ أحْذيَةً مِمّا سَخّرَ اللهُ لَهُم مِنْ الجُلود يُبيّتونَ فيهَا أقْدامَهم وَ يُسْكنونَ إليها أرْجُلَهُم فَتَحْفَظَها مِنَ الإصَابَةِ وَالقَذَارَةِ وَالضَّرَرِ وَالبَرْد والحَرِّ وَالمَاءِ وَالطِّينِ والشَّوكِ ونَحوِ ذلِكَ ، وَيَتَحقّقُ لَهم بِها مَناَفِعَ شتَّى لا يُدْرِكونَ قيمتها إلاّ حِيْنَ يَفْقِدوْنَها.

وَلمْ يَكُنِ البيتُ حَصراً على المَنْزِلِ الذيْ بهِ سُكنى الَّناس بلْ تعدَّدَت مَعَانيهِ ودَلالاتهِ ومنْ ذلكَ حديثُ عائشة، رضي اللهُ عنها: (تزوجني رسولُ اللِه صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلم، على بيتٍ قيمتهُ خمسونَ دِرهَما) أي: على مَتَاعِ بيت، فحُذفَ المضافُ، وأقيمَ المُضافُ إليهِ مقامه.

وَتَحْتَمُلُ الآيةُ الكَريْمة فِهْمَاً مُشَابِهاً آخرَ ، فَقَوْلُهُ (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ)  فَقَد يُرادُ مِن قَوْلِهِ (بُيُوتًا) أيْ أوعِيةً وَحَقَائبَ تَضَعوْنَ فيْهَا مَتَاعَكُم وَحَاجَاتِكُم فَتَكُوْنَ يَسِيرَةَ الحَمْلِ وَالنَّقْلِ فِي الظّعْنِ ، وَتَتَّسِع لَهَا مَنَازِلَكُم فِي الإقَامَةِ إذ تُبَيّتونَ فِيهَا أشْيَائَكُم ، ومِنْهَا بُيُوتِ بعْضُ الآلاتِ كَأغْمَادِ السُّيوفِ وجُرُبِ حِفظِ الزَّادِ والمعْدنِ وَ قِرَبُ المَاءُ وَ السَّمنُ وَنَحْوِه.

جَاءَ في المفصّل في تاريخِ العربِ قبلَ الاسلام للدكتور جواد علي – الجزءُ الرابع عشر – ص276 : ويقومُ الدبّاغونَ ببيعِ ما يدبغونهُ إلى التّجار, وقدْ يُحملُ إلى أسواقٍ بعيدةٍ لاستخدامهِ في أغراضٍ عديدةٍ، كتحويلهِ إلى قِرَبٍ يخزَّنُ فيها المَاء أو يُحملُ, أو أوعيةً تحفظُ فيها الخمورُ والسمنُ والسويقُ والطيب، أو أحذيةٌ وسيور وغيرَ ذلكَ من الحَاجاتِ, وقدْ يحولهُ الدباغونَ أنفسهم إلى هذهِ الأشياء الَمذكورة.

كما تخصصَ أناسٌ بحرفِ تحويلِ الجلودِ إلى موادٍ نافعةٍ يستعملُها الإنسانُ في حياتهِ اليوميةِ، كالموادِ المتقدمةِ والدلاءِ وأمثالُ ذلكَ من أدوات.

والِقرَبُ في ذلكَ الوقتُ مهمةٌ جدًّا في حياةِ الإنسان؛ فقدْ كانت مخازنَ متحركةً يخزنُ فيها أشياءَ كثيرةً ضرورية. فكانت أوعيةٌ لحملِ الماءِ في الحضرِ وفي السّفر، كما كانتِ الأوعيةُ الرئيسةُ لحفظِ الخمورِ والأنبذةِ والزيوتِ والدهونِ والشحومِ والدبسِ والموادُ الغذائيةِ الأخرى, يحتاجُ إليها الأعرابيُّ في حلهِ وفي ترحالهِ والحضريُّ في مستقرهِ وفي سفرِه. كانَ المصريونَ واليونانَ والرومانَ والعبرانيونَ يحفظونَ الخمورَ والأنبذة في أوعيةِ الِقَربْ, وقد أشاَر إلى ذلكَ بعضُ الكتبةِ الُقدماءْ.

ويُعالَجُ إهابُ الِقَربِ معالجةً خاصةً ليعطيْ الشرابَ نكهةً طيبةً، ولئلا يتأثرُ الشرابُ من رائحةِ الجلد. انتهى

واخيراً فِي التَّركِيْبِ الثَّالِثِ يَقُولُ تَعَالى: (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) ثمَّ أنَّ مِنْ أصْوافِ الأنْعَامِ وأوْبارِها وَأشعارِها تُنسجُ الأرديةُ والأوْزارِ و الثيابِ والأغطيةِ والفرشِ ونحوِ ذلكَ ، يستعملها ابنُ آدمَ وينتفعُ بها حيناً مِنَ الزّمن حتى تبلى وتتلفْ أو يسبقُ عليهِ الأجَل فيذهبَ هوَ عنها.

وَعندما نحللُ مسألةَ التقديمِ وَالتأخيرِ في التراكيبِ الموضحة نجدُ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا قدّم البيوتَ والسّكنَ لأنها مقدمةٌ في حاجةِ ابنِ آدمَ حتى وإنْ افتقدَ اللباسَ والثوبَ فهيَ تسترهُ عن أعْينِ الخَلقِ وتُسكِن نفسهُ وَيهدأَ فيها ، ويستخفي فيها عنِ النَّاس، فكانَ تقديمُها وجيهاً بلا شكّ.

ثم أنهُ جَعَل مَرتبة ما يُتخذُ من الأخفافِ ممّا يلي السّكن لأهميتها فِي الانتقالِ والكسبِ والرزقْ ، مع أقلّ ما يستر البدنَ فالانتعالُ بالأحذيةِ والأخفافِ لا غنى لبني آدمَ عنهُ ولا يحتاجهُ أيُّ خلقٍ منْ خلقِ اللهِ سوى البشر، وبدونه يعاقُ عنِ العملِ والكسبِ وتَتَعسّرُ فِي غيابه الحياةُ وتصْعُب.

وأخيراً فَقَد عدَّدَ اللهُ تعالى مَا سَخَّرهُ لِبَني آدَمَ مِنْ نَوَاتِجِ الأنْعَام الأُخرىَ كالصُّوفِ وَالوَبَرِ والشَّعْر في بقيّةِ مَا يستعمِلهُ ابنُ آدمَ من حمايةٍ من حرِّ وَبردٍ وزينةٍ ومتاع.

والتّقديمِ والتأخيرِ لا يرادُ بهِ تقليلُ أهميةِ شيءٍ منها عنِ البقيّة ولكنْ أولويةُ الحاجَةِ معَ الإقرارِ بأنَّها كُلها أساسيةٌ في حَيَاةِ ابنِ آدم .

وأهلُ المدينةٍ ومكة وأهلُ القُرى والمُدن عَامَّة يَشِيعُ لديْهم مجموعةُ المفاهيمِ والعناصرِ المذكورةِ في الآيةِ ولا يشيعُ لديهم اتخاذُ بيوتاً للسكن منَ الجِلد كما اسلفنا فَكانَ هذا التوجيهُ للآيةِ الكريمةِ مُسايراً موافقاً لحالِ المخاطبين ، ولكنْ وبِرغمِ ذلكَ فإنَّ هذا الخطابُ أكثرَ موافقةً ومسايرةً لحالِ الناسِ في عصرِنا الحَاضِر مِن حالتِهم في ذلكَ العصر الأمرُ الّذي يَدلُّ عَلى دَيْمُومَةِ القُرآنِ الكَرِيْمِ وَصَلاحِه ِ وإصْلاحِهِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَ مَكَانْ وَبِهَذا المَفْهُومِ وَ هَذا الوَجْه يُحَلُّ مَا قَد يُمَثِّلُ لِلْبعضِ إشْكَالِيَّة مُعَاصَرَة النَّصّ القُرْآنيّ وَ مُوَاكَبَتِهِ لِحَالِ الخَلْق ، فَلَا يُؤدِّي اخْتِفَاءِ البَدَاوَةِ وَ تَحَضُّر النَّاسِ لِتَرْكِ كَلاَم اللهِ لِتَصَوِّرِ جُمودهِ فيْ صُورةٍ مَحْدودةٍ تَتَضائلُ و تَنْكَمِشْ بِاخْتِفَاءِ من كَانَ مُخَاطَباً في أصلِ الآيةِ بَلْ نَجدهُ أكثرَ مَلامَسَةً وإحِاطَةً مَعَ مفهومهِ الحقيقيّ للِواقِع بَل و أقْوى أثراً وأصْدقُ تجسيداً لإحَاطةِ اللهِ تَعالى بِأحْوالِ النَّاس فيْ كُلِّ زمانٍ و مَكان ، فَالحَمْدُللهِ ربِّ العَالَميْن.

واللهُ أعْلى وأعْلم و صَلّى اللهُ على سيِّدنا مُحمَّدٍ و عَلى آلهِ وَ صَحْبهِ و سلّم.

 

12 تعليق

  1. ما شاء الله تبارك الله
    حقا ما قلت سيدى الفاضل
    بارك الله لك
    وقد كنت افهم شيئا يسيرا مما ذكرتم
    لكن الفكرة الآن صارت كاملة حول الآية الكريمة
    على الرغم انى لست مطلعا كثيرا على التفاسير
    نفع الله بكم واحسن اليكم

  2. السلام عليكم ورحمة الله
    أرغب في مناقشة الموضوع بصورة أكبر، هل يمكن تزويدي بمعلومات أكثر عن الباحث وعن كيفية التواصل؟ الإيميل مثلا؟
    وشكرا

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    اولا: اقترح عليك ياشيخ عدنان.. انشاء موضوع “للاستفسارات والمناقشات القرانية” ويكون الاستفسار والمناقشة لمن اراد، بالرد على هذا الموضوع العام

    ثانيا : لدي نقاش بعيد عن هذا الموضوع الذي اكتب هذا الرد عليه .. وهو نقاش حول الاية التالية:

    قال الله تعالى {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} ..

    هل {تَقِيًّا} هنا من (التَقِيَّة) وليست من (التقوى) .. فمعلوم ان ( التقية) هي ان يخفي ويبطن الشخص خلاف مايظهر .. ودليل ماذهبت اليه يظهر من سياق الايات .. {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} فالملك قد جاء الى (مريم) عليها السلام واقتحم خلوتها بدون مقدمات وهو بهيئة رجل صالح تظهر عليه سمات وعلامات التقى والصلاح على اكمل وجه واحسنه، وكون المؤمن التقي لايخلو بامراءة غير ذات محرم له.. فزعت مريم منه ولكن لم تستعذ منه على الاطلاق وكان يمكنها الاكتفاء بقول (اعوذ بالرحمن منك) فقط دون قول (ان كنت تقيا) .. ولكن كما قلنا ان هيئة الصلاح البادية عليه جعلتها تستدرك بقولها (ان كنت تقيا) اي ان كنت تضمر وتخفي لي السوء خلف ظاهرك الذي يبدو عليه الصلاح والتقوى .. فمعلوم
    ان الاستعاذة تكون من الشر والسوء و من اهل الشر والسوء .. واما المؤمنين لا يستعاذ منهم على الاطلاق وانما يستعاذ من شر كل ذي شر .. وجاء رد الملك عليها بعد الاستعاذة..{قَالَ إِنَّمَا} اي يامريم انا لست كما “كنت” تظنين ( باني اخفي لك نية سوء) {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} ..

    * ملاحظة: لو كان المقصود ب(ان كنت تقيا) اي اذا كنت تتقي الله .. فلا اظن ان الملك سيقربها بعد الاستعاذة حتى لو بالخير لانه تقي يقف خشية وخوف ممن استعاذة به مريم و يرجع لله سبحانه وينظر ماذا يأمره الله به بعد ان استعاذة مريم منه.

    ** وهنا اذكر الفرق بين التقية والنفاق وارجو من العلماء والمختصين كالشيخ عدنان التصحيح وبيان الخطاء فيما قلت، فانا ازعم ان كلامي هنا مجرد نقاش واستفسار وليس من علم اجزم به ….

    الفرق بين التقية والنفاق:
    يتفقان بالمعنى (اظهار خلاف الباطن)، ولكن التقية تختلف عن النفاق بانها حالة طارئة وسياسة مؤقته تتخذ ببعض المواطن حال الخشية والخوف واما النفاق فهو حالة دائمة وملازمة لاتفارق الشخص، وتنقلب التقية الى نفاق اذا اتخذها صاحبها حالة دائمة وعقيدة ملازمة له.

    والله تعالى أعلم وأحكم

    1. بل هو عين الصواب ، ولأن القرآن الكريم حمال أوجه فلا نستطيع القول بنفي مفهوم التقوى بمعنى اتباع أوامر الله ، ولكن هذا قول وجيه بلا شك وكأنها تقول {إني ألوذ واعتصم منك بالرحمن إن كنت تخفي في نفسك مالا تظهر فتبطن لي السوء} والتقية مذكورة في القرآن في قوله تعالى { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران:28]
      وفقك الله وفتح عليك من انوار علمه انه هو الفتاح العليم

    2. ولكن كما أسلفت لا يمكن تخطئة القول الشائع بأن التقوى تعنى خشية الله واتباع أوامره ، فيمكن أن يكون المراد (لا تؤذيني فإني ألجأ منك الى الله إن كنت تعرفه وترعى حدوده ، فوجب عليك الخوف من لجوئي واستعاذتي به) ولكنها تعلم أنه لو كان شقيا ولم يكن تقيا لما ردعته استعاذة مريم بالله ولربما تجرأ عليها ، كما أن استعاذتها تشير الغريب بأنها ليست ممن يخضع السوء ويسير فيه.

      1. جزاك الله خير ياشيخ عدنان وزادك من فضله

        (التقوى) اذا كانت على الاطلاق فهي تعني تقوى الله فالاصل والاحق هو خشية الله والخوف منه لا من الناس .. وتقوى الله تكون باتباع اومره واجتناب نواهييه ..

        ولكن يصرف هذا المعنى الى غير اصله تبعا لسياق الكلام .. فنقول فلان “يتقي” فلان خوفا من بطشه (فهنا صرف معنى التقوى الى غير اصله حسب ما اقتضاه سياق الكلام) .. اما لو قلنا فلان “تقيا” على سبيل الاخبار فان المعنى يصرف مباشرة الى اصله العام (تقوى الله)

        وفي الاية محور النقاش .. صرفت الاستعاذة كلمة “تقيا” الى معناها الخاص “التقية” .. فكما قلت انا ان الاستعاذة لاتكون الا من الشر واهله .. ثم لماذا مريم تقيد استعاذتها بكون هذا الشخص (الملك) المخاطب “تقي” فقط؟ .. والسؤال على فرض اعتقاد مريم (انه بشر) فلو لم يكن تقي فانه لاتصيبه استعاذة مريم ، اليس الله بقادر على حماية مريم من كل اذى صادر من بر او فاجر ؟ بلى الله على كل شيء قدير، لذا كانت استعاذة مريم ليست موجهه لهذا الشخص (الملك) وانما موجهه لله مباشرة بان يرحمها من ان يصيبها السوء الذي خشيت ان يكون يخفيه ويضمره الشخص (الملك) الذي جاءها بصورة صلاح وتقوى واقتحم خلوتها .

        **وعن ابن الأعرابيّ: التُّقاة، والتقيّة، والتقوى، والاتّقاء.. كلّه واحد، ويؤيّده ما ورد في بعض القراءات: « إلاّ أن تَتّقُوا منهم تَقيّةً » في موضع ( تقاة )(2).
        • وفي ( المفردات في غريب القرآن 530 ـ مادّة « وقى » ) للراغب الإصفهانيّ: الوقاية: حفظ الشيء ممّا يُؤذيه ويضرّه، يُقال: وقيتُ الشيءَ أقيه وِقايةً ووِقاءً. والتقوى: جَعلُ النفس في وقايةٍ ممّا يُخاف.. وصار معنى التقوى في عُرف الشرع: حفظ النفس ممّا يُؤْثِم، وذلك بترك المحظور.
        • وهنا يرى بعض العلماء أنّ التقوى أو التقيّة لها معنيان:

        الأوّل: عام، هو التحفظّ والحذر من الوقوع في المحرَّمات أو الإخلال بالواجبات، فيجعل الإنسان بينه وبين غضب الله حاجزاً، ويتمّ ذلك بالعمل الصالح.
        وقد أُسند هذا المعنى في الكتاب العزيز إلى الله تعالى في آيات عديدة، منها: واتّقوا اللهَ واعلَموا أنّ اللهَ مع المتّقين (3)، وتَزوَّدوا فإنّ خيرَ الزادِ التقوى، واتّقونِ يا أُولي الألباب (4)، يا أيُّها الناسُ اتّقُوا ربَّكمُ الذي خَلقَكُم مِن نَفسٍ واحدة (5). وهذا المعنى يشمل بمقتضى عمومه: التحفّظَ عن كلّ ضرر، والاتّقاءَ مِن كلّ ضرر، والاتّقاءَ مِن كلّ ما يُخاف ويُخشى، دينيّاً كان أو دنيويّاً.
        الثاني: اصطلاحيّ خاص، وهو التحفّظ عن ضرر الغير، أو كما ورد في ( مُعجم الفقهاء ): إظهار غير ما يَعتقد

        والله أعلم وأحكم ..

      1. حياك الله ياشيخ عدنان .. اقدم شكري لك على دعوتك واستضافتي بالمدونة .. واعتبر ذلك شرف فما انا الا من عوام المسلمين استفسر واناقش اصحاب العلم والفضل لكي استفيد من علمهم ولكي يبينوا لي اخطائي ويصححوها ..

        ** سؤالك وماذا عن الاستعاذة بالرحمن وليس بالله ؟

        اقول والله اعلم ان مريم (العطوفة الرحيمة) .. استعاذة باسم الله (الرحمن) لانها انما ارادت من استعاذتها دفع اذى هذا الرجل (الملك) بدون ان يصيبه اذى ..

        وهذا دأب الانبياء والصالحين الذين هم القدوة.. انهم يقدمون رحمتهم باعدائهم على الانتقام منهم .. ويقدمون الدعاء لهم بالهداية على الدعاء عليهم بالعذاب والهلاك ..

        {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّ}

        فهذا ابراهيم عليه السلام استعان باسم الله (الرحمن) في موضع وعظ وتخويف من عذاب الله ! .. لماذا؟ لان هذا الوعظ والتخويف في اصله كان دافعه رحمة الابن ابراهيم بابيه وخوفه ان يمس ابيه عذاب الله .. ومن جهة اخرى وكأنه يعظ ويخوف ابيه من عذاب الله مع رجائه بنفس الوقت عدم وقوع العذاب بابيه ولذا استعان باسم (الرحمن).

        *** ملاحظة: من واقعنا، المؤمن الذي يحمل في قلبه رحمه وعطف، يؤذيه اعدائه ويريد ان يدعوا عليهم ولكن يمنعه ما في قلبه من عطف ورحمه، فيكتفي بالدعاء بقوله (اللهم اكفنيهم بما شئت).

        والله أعلم وأحكم

        1. حياك الله اخي عبدالرحمن
          لا .. الحقيقة الأمر اكبر من ذلك ولكن سأنشره قريبا لتطلع عليه.
          الأمر الثاني فأنا لست شيخا ولا عالما بل من عوام الناس فأسأل الله يبلغنا فهم كتابه على مراده ويجعله بركة لنا في الدنيا والآخرة.

    3. الاستعاذة توجب الانتهاء والمفارقة ، فلا ننسى المرأة التي استعاذت من النبي فقال لها عذتِ بمعاذ فسرحها إلى أهلها ، فكيف إن كانت العائذة مريم عليها السلام ؟ ، ولو كانت المراد بتقيا من تقوى الله لوافق ذلك حقيقة جِبْرِيل وفارقها على الفور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »