مَرَاتِبُ الدِّيْن ، مَفَاهِيْمُهَا فِيْ ضَوْءِ القُرْآنِ الكَريْم وَ السُّنّة المُطهَّرة (6)

مَرَاتِبُ الدِّيْن ، مَفَاهِيْمُهَا فِيْ ضَوْءِ القُرْآنِ الكَريْم وَ السُّنّة المُطهَّرة (6)

 

المطلب الثاني

أوجه الخلل في المفاهيم التقليدية للإيمان والإسلام والإحسان

إن تأصيل الدين وترتيبه بهذه الصورة تحديداً هو عمل بشري استنبطه واستنتجه علمائنا الأجلاء رحمهم الله من خلال النص القرآني والحديث الشريف وفق ما فهموه وأصبح قاعدة بعدهم ، ولم يكن هناك نص شرعي يقنن ترتيب الدين لمراتب متفاوتة علوا ونزولاً بهذه الصورة ، ولم يرد نص شرعي يحدد مقامات الإحسان ويقسم اقسامه ويفرق بين أنواعه ، ولم يرد ما يحدد أن للإسلام في جانبه الشرعي معنى عام وخاص ، ولم يرد نص شرعي قرآني أو نبوي يقول أن الإحسان مرتبة لا يصلها إلا أولياء الله الصالحين وفي بعض آراء العلماء (الأنبياء هم من يصلها فقط) ، وبذلك نستطيع القول أن مسألة تقسيم الدين ومراتبه بهذه الصورة مسألة اجتهادية يمكن لأي مجتهد أن يرى صورة أخرى من التراتبية والعلاقة بين كل أصل من هذه الأصول ، فما هو الضابط في قبول التقعيد في هذه المسالة ؟ ، لا شك أن فهم النص القرآني على وجهه من أهم الأدوات التي تساعد المجتهد على هذا التأصيل .

إن المفهوم بهذه الصورة إنما هو مفهوم صوفي صرف يقوم على دعوى تفاضل الناس ووصول القليل منهم لمرتقيات لا يبلغها سواهم من خلال مفهوم التراتبية المحدث المتبدع الذي يصنف الناس ويقسمهم لطبقات واحدة تفوق الأخرى ،هذا المفهوم الذي لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ، فيأتي من يدعي أتباعه وصوله لمرتبة الإحسان والمشاهدة والمقامات العالية التي لا يبلغها من هم دونه من المريدين.

وبالإضافة للأصل الصوفي البيّن والدخيل على الفكر الإسلامي بفعل تنوع الداخلين في الإسلام من الأعاجم وخلفياتهم الاعتقادية السابقة ، فإن هذه المفاهيم في نظري جنت على الأمة وتسببت في مأساة فكرية وأخلاقية عظيمة كانت خلف ما نحن فيه من تخلف ونفاق وتشرذم وسوء ، وعلى رسلك أيها القارئ الكريم فلا يأخذنك الإنفعال تجاه ما أقول إلا بعد أن تقرأ ما سأورده من حجج وحقائق بهدوء وتعقل وتفهم ما اقصده وتطبقه على واقع الأمة،  ولك كل الحق في رد ما تجد فيه مجافاة للحقيقة وستجدني عواداً إلى الحق أينما كان.

نافق أولاً

إن أول كارثة يجرها هذا المفهوم ويزرع في عقول وأنفس النشء عند تأسيسهم على هذا التقعيد هو زرع مفهوم النفاق أولاً ولكن بصورة غير مباشرة ، فالإيمان عندهم ليس القاعدة التي يرتكز عليها الدين ، بل الإسلام فهو الدائرة الأكبر التي يجب عليك الدخول إليها ، والإسلام هو أعمال الجوارح : (شهادتين ، وصلاة ، صوم ، وزكاة ،وحج) ، وعندما تأتي بهذه الأعمال فأنت مسلم ، ولكنك عندما تؤمن بالأركان الستة (الإيمان بالله ، وملائكته ، كتبه ، رسله ، اليوم الآخر ، القدر) فقد انتقلت للدائرة الأضيق أو لنقل لمرتبة أعلى.

وبالتالي فإن المسلم يتصور بأن العالم الإسلامي هو الدائرة الكبيرة التي تشمل مئات الملايين من المنافقين الذين يؤدون العبادات بلا إيمان وهناك عدد أقل يحملون إيماناً في قلوبهم وكلا الفريقين يدخلون في دائرة الدين الإسلامي ثم قلة قليلة هم المحسنون والله أعلم بهم وهذه كارثة كما اسلفنا بمعنى الكلمة تشرعن النفاق وتطبِّعه في قلوب الناس.

والمزيد من النفاق

الثمرة السيئة والخبيثة لهذا التصنيف والتأصيل هو مفهوم الإحسان وهو أحد أسباب انحدار الأمة وفساد عقيدتها ، فالإحسان هو الرقابة الذاتية التي بدلاً من تعزيزها في نفوس الناس وجعلها لازما من لوازم الدين لا يمكن أن ينفك عن الإيمان جعله أصحاب هذا التصنيف مرتبة عالية وجعلوا لها مقامات صوفية لم ينزل الله بها من سلطان فحملت شروحاتهم ما يجعل هذه المرتبة مستحيلة وتقتصر على الخلص والنخبة من المسلمين بل أن البعض حصرها في الأنبياء ، فنتجت أجيال من المنافقين الذي يحملون شخصية مزدوجة فهو في العلن يؤدي أعمال البدن كعبادات الجوارح ويتظاهر أمام الناس بخلق وشخصية فإذا خلا بمحارم الله انتهكها ولكنه لا يرى في ذلك بأساً لأن ذلك ضمن مرتبة الإحسان ومقام المشاهدة وهذا لا يتحقق إلا لأولياء الله الصالحين وبالتالي فالمطلوب في الدرجة الأولى منك هو الإسلام  ، ثم الإيمان أما الإحسان فيشق على المسلمين فهو من الكمالات التي تحقق السمو لنخبة من الناس.

ولننظر كيف أن هذا التأسيس العقدي لم يسلم منه طفل حتى استقر في عقولهم الباطنة وأخلاقهم وإيمانهم الداخلي ثوابت باطلة وقواعد خاطئة أثمرت عن أجيال من المنافقين نفاقاً مشرعناً ومقنناً ، وهذه أم المصائب التي لن تنهض الأمة من كبوتها إلا بمعالجتها والعمل على مكافحتها وتوعية الناس تجاهها.

إن الناظر لحال الأمة وعصر صدر الإسلام عندما كان الفهم الإسلامي الصافي يخلوا من هذه المحدثات من القواعد والتصنيفات يجد أن ظواهرهم وسرائرهم متطابقة لأن الطاعة بالبدن كانت تؤتى بدافع اليقين في القلب ، والدخول في الدين كان قناعة وإيمان بالأركان الستة أولا ينتج إتيان بالأركان الخمسة تاليا وليس العكس فسادوا العالم وهزم العشرة منهم مائة حتى دخل خلال بعضهم النفاق كما حدث من الأعراب فأوضعوا خلالهم وزادوهم خبالا ، ثم تطور الأمر حتى وصلنا الى تقعيد لذلك النفاق فأصبح أصلا من أصول الدين يرضعه الطفل مع أول حروف يتعلمها.

المزيد من الدعوة ،، المزيد من الفساد

من أهم وأبشع نواتج هذه المراتب المبتدعة هو تفاقم الفساد الأخلاقي والمالي والاجتماعي والديني في أوساط المجتمعات الإسلامية جمعاء ، في الوقت أن بقية المجتمعات البشرية لا تعاني من هذا الداء والانفصام الشخصي لأنها تربي أجيالاً على قدسية الصدق واستواء الظاهر والباطن ومراقبة الذات كقيمة أساسية لا يمكن أن يكون المرء بدونها إلا إنساناً بهيمياً فاسداً منافقاً.

والعجيب والغريب أننا نراقب انتشار الدعاة والمصلحين الاجتماعيين في أوساط المجتمعات الإسلامية ، وإفراد مساحات إعلامية واسعة وهامة ، فضلا عن القنوات الأخرى المكتوبة والمرئية وخطب الجمع ودروس المساجد ولكن بدلاً من القضاء على فساد المجتمعات نجد أن الفتن تتزايد ويرقق بعضها بعضها فما هي ثمرة هذه الدعوة ؟؟ المزيد من الفساد الأخلاقي والديني والسبب يعود لأن كل أولئك الفضلاء يعالجون العرض وغاب عنهم علاج المرض وهو بذرة الفساد وسببه المباشر وهو غياب الرقابة الذاتية وشرعنة النفاق في نفس كل مسلم من خلال مراتب الدين المبتدعة.

وسيأتي معنا فيما يلي تجسيد لصور من التناقض بين مفاهيم مراتب الدين القائمة على التفاضل والتمايز وبين النص القرآني الجلي والواضح

التناقض أول دلائل الخلل

إن الشواهد القرآنية التي يستعملها المؤصلون لهذه المراتب تتناقض ذاتها مع هذه المراتب ففي حين يقول تعالى :

{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:14]

فأرباب مفهوم مراتب الدين يستعملون هذه الآية للاستدلال على شرعية إسلام الأعراب ذلك الإسلام المجرد وهو غير الإسلام مع الإيمان فالأعراب – في نظرهم – كانوا في مرتبة الإسلام فقط ولم يترقوا لمرتبة الإيمان ، ولسنا هنا لنبين فساد هذا الفهم فسيأتي ذلك في القادم من الفصول ولكن نريد أن نبين بأنه تأسيساً على هذا الفهم فإن الخلل الشنيع هو ان هذه الآية تتناقض مع آيات أخرى تدل على أن الإسلام غاية سامية عظيمة ومقام يفوق الإيمان سمواً وعظمة فكيف يكون قولهم صحيحاً ؟ ، ولنقرأ فيما يلي صور من التناقض في فهم اصول ديننا .

قال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها :

“واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا, ولا تقولوا آمنا, فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك, لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم, ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم, فقيل لهم: قولوا أسلمنا, لأن الإسلام قول, والإيمان قول وعمل.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال: إن الإسلام: الكلمة, والإيمان: العمل.” ا.هـ

أقول  : كيف يكون ذلك والإسلام عمل جوارح ، والإيمان عمل قلبي ؟؟ وذلك من واقع حديث جبريل الذي فصل في الفرق بين الإسلام والإيمان فكان الإسلام يشمل أعمال الجوارح كالعبادات من صيام وصلاة وزكاة وحج ، والإيمان أعمال قلب متعلقة بالغيبيات كالإيمان بالله والملائكة الكتب والرسل واليوم الآخر ، بينما كانت الآية تدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يأتون أعمال الإسلام حتى يترائى للمسلمين أنهم منهم ففضح الله قلوبهم وأنها خالية من الإيمان وأن أعمال الإسلام التي يؤدونها إنما هي نفاق ورياء لا قيمة لها.

أما ابن كثير رحمه الله فقد كان واضحاً تماماً في نسبة التراتبية للإسلام الإيمان والإحسان فقال في تفسير آية إسلام الأعراب :

“يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، عليه السلام ، حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص منه .”

وقد فصل صاحب التحرير والتنوير بما يؤيد ذلك فقال رحمه الله:

“وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } الآية .

والاستدراك بحرف ( لكن ( لرفع ما يتوهم من قوله : { لم تؤمنوا } أنهم جاؤوا مضمرين الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال : { ولكن قولوا أسلمنا } تعليماً لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مَقرُّه اللسان والأعمالُ البدنية ، وهي قواعد الإسلام الأربعة : الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سُؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحُجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا» فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم { آمنَّا } ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله ، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان ، فلا يغني أحدهما بدون الآخر ، فالإيمان بدون إسلام عناد ، والإسلام بدون إيمان نفاق ، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ، أو أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات ، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم

واستغني بقوله : { لم تؤمنوا } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مُؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقاً لا كاذباً فقيل لهم { لم تؤمنوا } تكذيباً لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولاً على المعنى .

وعدل عن أن يقال : ولكن أسلمتم إلى { قولوا أسلمنا } تعريضاً بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع ، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر ، وذلك مما يُتعير به ، أي الشأن أن تقولوا قولاً صادقاً .

وقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } واقع موقع الحال من ضمير { لم تؤمنوا } وهو مبيّنٌ لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله : { لم تؤمنوا } بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } .

واستعير الدخول في قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويَسْتقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزاً للانصراف عنه .

و ( لمّا ( هذه أخت ( لم ( وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين ( لم ( أختها . وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالباً ، بأن النمفي بها متوقع الوقوع . قال في «الكشاف» «وما في ( لمّا ( من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد» .

وهي دلالة من مستتبعات التراكيب . وهذا من دقائق العربية . وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان ، ولهذا لم يكن قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } تكريراً مع قوله : { لم يؤمنوا } .

وقوله : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حَصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضاً عن الاشتغال بالمَنّ والتعريض بطلب الصدقات .” ا. هـ

ولكن الله تعالى يقول :

{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } [الجن:14]

وكان الأولى تأسيساً على مفهوم المراتب أن الإسلام أدنى المراتب وأقلها وكان الأحرى أن يكون الرشد في الإيمان أو قل في الأحسان ، أما الإسلام المجرد هكذا فهناك درجتان تعلوه وتتفوق عليه.

ويقول جل شأنه :

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت:33]

وتأسيساً على القول بترتيب الدين لثلاث مراتب فإن الأولى أن يقول إنني (من المؤمنين) أو (المحسنين) لأنهما أعلى من الإسلام مرتبة.

ويقول تعالى :

{ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [النمل:91]

فإن علمنا من التأصيل أن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام فيتراءى للقارئ أن الأمر بالانتماء للمؤمنين أولى من الانتماء للمسلمين ، فهل يحق لنا أن نقول أن الأمر هو بالانتماء لإسلام الأعراب الخالي من الإيمان بوصفه أدنى مراتب الدين ؟

وهذا إبراهيم يدعو الله أن يجعله وابنه اسماعيل عليهما السلام من المسلمين:

(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )  [البقرة:128]

فكيف يرتضي ابراهيم عليه السلام أن ينزل لمرتبة أدنى من الإيمان ، أليس من الأولى أن يدعو بأن يكون من المحسنين ؟؟ .

( وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)   [الأعراف:126]

فبناء على تأسيس مراتب الدين فهم يدعون بأدنى درجات الدين وأقلها أهمية ، فلنترك ومن يفلسف المسألة فيقول ان الإيمان والإسلام اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا ولكن ما حال اهل الملة من عوام المسلمين الذين تعلموا واستقر لديهم بأن الإسلام ما هو إلا درجة دنيا يعلوها ماهو أرقى منها ، وكيف يجمعون هذا المفهوم مع الدعوة بالوفاة على الإسلام ؟؟ ، لا شك أنهم سيكتفون بالإسلام فالقرآن كله يشير إلى أن الإسلام غاية المتمنين وأولهم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

والعديد من الآيات المشابهة التي تكرس الدلالة على أن الإسلام هو ارقى ما يصل إليه المرء ويتمناه كل تقي مؤمن :

(وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ )  [يونس:84]

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)   [النحل:102]

(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ)   [الحج:78]

 

ولكن !

ولكن بالمقابل نجد بأن الأعراب الذين أسلموا ولم يؤمنوا فإنهم بفعلهم هذا قد نافقوا بإسلامهم الذي لم يؤسس على إيمان وأقر الله نفاقهم في أكثر من موضع تترابط معنوياً ودلالياً مع آية (قالت الأعراب آمنا) فيقول تعالى مثبتاً أن الإسلام بلا إيمان هو النفاق المحض:

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة:101]

{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة:90]

{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:97]

وانظر في النفاق المتصل بأولئك الأعراب الذين يدعون الإيمان وهم خارج دائرته:

{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [الفتح:11]

والحقيقة أنك لو أبحرت في كتب العقيدة والأصول عامة لوجدت تناقضات عديدة ، ففي مواضع تجدهم يقررون بأن الإيمان عمل قلبي فقط ، ثم يتحول في موضع آخر لعمل القلب وأعمال العبادة في ذات الوقت ، وعندما تعود لحديث جبريل تجد الإيمان عمل قلب والإسلام عمل جوارح وعبادات ، وإذا تحدث عن التراتبية في الدين استعمل آية الاعراب للدلالة على دونية الإسلام واتساع دائرته وعلو الإيمان وضيق دائرته وخصوصية الإحسان ورقي موضع المحسنين ، وإذا فوجئ بالإسلام في موضع الرفعة والتقدير نسب لذلك اقترانه بالإيمان ولكن دون قرينة ولا دليل .

وهكذا فإن تلك التناقضات والمفاهيم الخاطئة كانت تحمل في سطورها دلائل الخلل والتناقض ، وتحمل في نتائجها على أرض الواقع الدليل العملي الواضح على ذلك الخلل بنتائجه وثماره الضارة.

يتبع

تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »