مَرَاتِبُ الدِّيْن ، مَفَاهِيْمُهَا فِيْ ضَوْءِ القُرْآنِ الكَريْم وَ السُّنّة المُطهَّرة (9)

مَرَاتِبُ الدِّيْن ، مَفَاهِيْمُهَا فِيْ ضَوْءِ القُرْآنِ الكَريْم وَ السُّنّة المُطهَّرة (9)

درجات الإيمان

لا شك أن الإيمان عند العبد يزيد وينقص ، ومن الخطأ أن يقال أن الإيمان يزداد بالطاعات ويتناقص بالمعاصي، فالطاعات والعبادات إنما هي من نواتج الإيمان وليست من مكوناته ، أي أن العمل يتأثر بمقدار الإيمان ، فإن خبا الإيمان واختفى ظهرت أعمال السوء والمعاصي كالزنا والسرقة ونحو ذلك واختفت الطاعات والصلوات والصدقات وأعمال الجوارح  ،  وإن ارتفع الايمان ازداد التقوى بإتيان الطاعات وترك المنهيات ، فالحقيقة أن زيادة الإيمان هو سبب لزيادة الطاعات و ونقص المعاصي ، والعكس صحيح ، فاضمحلال الإيمان هو نقص الطاعات وزيادة المعاصي والسيئات ، بل إن الإيمان حالات يختفي فيها ويغيب تماما ، فالعبد حال المعصية ينتفي عنه الإيمان فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا النهبة.

فلا أدل من هذا الحديث على أن الإنسان حال ارتكابه المعصية يخرج من الإيمان وبالتالي فهو يخرج من الإسلام الذي تقرر لدينا أنه من نواتج الإيمان فانتفاء الإيمان هنا يعني انتفاء الإسلام لله بالكلية ولكن لا ينسب إليه الكفر ، لأن الكفر عمل قلبي ينعقد على تقرير رفض الإيمان بالله والإسلام له تعالى ونبذ أوامر الله وتركها جحوداً وتكذيباً أو عداوة لله ولشرعه ، وهنا لا بد من إثبات أربع حقائق عند تقرير هذا الأمر.

الحقيقة الأولى : أن ما يتعلق بانتفاء الإسلام والإيمان عن العبد حال ارتكابه لنواقض الإيمان هو أمر متعلق بالعبد نفسه وليس لسواه الحق في تقريره أو التعامل مع مرتكب المعصية على ذلك الأساس ولكن المعلوم من ذلك يجب أن يستقر لدى صاحب المعصية وليس لدى سواه وقد سبق لنا قول ذلك ، فمدار الأمر إرشاد العبد وتعريفه بحاله هو وإنزال نفسه في المنزلة الحقيقية التي توافق فعله فيعلم أين حدود الإيمان وانتفاءه ويطبق الثوابت على نفسه فيعلم بذلك مع أي صنف يكون.

الحقيقة الثانية : أن غياب الإيمان وانتفاءه مقصور على حال الوقوع في الجرم وقد يعود الإيمان ويحصل الندم والاستغفار بفعل اعتلاء العقل على الفؤاد وصلاح القلب بعد فساده ووقوع الندم ، وقد يتكرر منه الجرم وتتكرر التوبة ، وهنا يجدر بنا فهم مسألة تكرر الذنوب والكبائر تضعف العقل وتعلي الفؤاد وتغلف القلب وتقسِّيه.

وطالما تراوح حال العبد بين المعصية والتوبة فهو قريب من النجاة وأمره مغاير لمن كفر فرفض الدين وارتد عن الإيمان والإسلام بالكلية و انعقد قلبه على رفض حقيقة وجود الله أو عبد سواه أو أشرك معه في ملكه سواه وقبضت روحه وزهقت نفسه بغير توبة ورجوع للحق.

ولذلك اكرم الله هذه الأمة بمضاعفة الحسنات عشرة أضعاف وتدوين السيئات سيئة واحدة ، والتراجع عن المعصية بحسنة ونية فعل الحسنة بحسنة فلا يمكن أن ترجح بعبد سيئاته إلا من ترك الحسنات والطاعات بالكلية وقضى حياته في اجتراح السيئات ، وبرغم ذلك قد تغشاه رحمات الله بعمل واحد أو بشفاعة شافع أو بمطلق رحمة الله ومغفرته.

الحقيقة الثالثة : أن العمل الصالح سبب له طرفين ، أحدهما التقوى ، وهو إتيان العمل اتقاء لغضب الله وخشية له ورهبة منه تعالى ، والطرف الثاني هو الإحسان وهو إتيان العمل محبة لله ورغبة  فيما عنده جل جلاله.

الحقيقة الرابعة : أن شُعَب الإيمان إنما هي جملة أعمال الجوارح الناتجة عن استقرار الإيمان في قلب المرء ، فكل ما تكاملت تكامل معها الإيمان ، وكلما نقص منها شعبة ضعف الإيمان ونقص ، ذلك أنَّ تلك الشعب هي المؤشر عند المؤمن على قوة إيمانه وضعفه وليس المراد من معرفة العبد بها ليتأتى حكم الآخرين عليه.

الدخول في الإسلام بين المفهومين

هنا سنعمل على استيضاح الفرق في مسألة الدخول في الإسلام  بين  القائلين بالتراتب والتفاضل (مراتب  الدين) وبين ما نقول به من مفهوم أبواب الدين.

إن القائلين بالتراتب والتفاضل يقولون بأن من يدخل في الإسلام فإنه يبدأ بالدرجة الأولى والمرتبة الأدنى من مراتب الدين فيدخل الإسلام بأعماله الظاهرة فينطق الشهادتين ويبدأ في أداء الصلاة وغيرها من أركان الإسلام فيكون بذلك مسلماً ولكن لا يُعلم كم يفصل بينه وبين الارتقاء لمرتبة الإيمان ، لأن الإيمان مرتبة أعلى من الإسلام تلي في علوها الإسلام ، فيدخل الانسان في دائرة الإسلام أولاً ، ثم يدخل لدائرة الإيمان وهذه دعوة لبدء حياتك في دين الله بالنفاق الذي قد يستغرق ثوانٍ معدودة أو قد يستغرق اياما أو أشهراً أو حتى سنوات .

بينما في مفهوم أبواب الدين فإن الدخول للدين من باب الإيمان بأركانه الستة أولاً ، فإذا استقر هذا الإيمان خالياً من أي إشكالات أو اعتراضات في نفس المكلف و بإقرار ويقين ثابت راسخ فإن نتيجته ينبغي أن تكون انعكاساً على جوارحه بإتيان أركان الإسلام العملية فيكون لدينا تلازم بين الحالتين (الإيمان والإسلام) بعكس مفهوم مراتب الدين الذي يتعامل مع المسألة كحالات ارتقاء وتطور في حالة الفرد الدينية حتى يصل إلى الإحسان وهو رتبة عالية خاصة.

ومن خلال المقارنة بين الحالتين نفهم بدقة ما يقصد بنبذ مفهوم مراتب الدين وخطورته خاصة على المسلمين بالمولد الذين لا يقيمون لحقيقة الإيمان وزنه الحقيقي لأنه في ظنهم مرتبة اعلى والمهم في نظرهم هو أداء الشرائع والفرائض والعبادات (الإسلام) ، ولذلك تعاني المجتمعات الإسلامية من فقدان الشعور بروحانية الدين وتأثير العبادات على الفرد المسلم حيث يقول تعالى :

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)   [العنكبوت:45]

فلم تعد الصلاة تحقق النهي عن الفحشاء والمنكر لأنها لا تستحضر الإيمان بالله قبل أداء العبادة بل يعتقد المصلين بأن الصلاة تسبق الإيمان وأنها هي التي تزيد الإيمان و ترفعه وهذا خطأ فادح فإتيان الصلاة يجب أن يكون نتيجة وعلامة على استقرار الإيمان وليست وسيلة لرفع درجة الإيمان في القلب.

 الطبقية والاستعلاء بين المفهومين

ونقول بأن الناس في كلا المفهومين متمايزين ومتفاضلين فلننظر كيف يكون التمايز بين الناس في الحالين فنقول وبالله التوفيق:

إن مفهوم التراتب بين درجات الدين فيزعم بأن العلم أو النسب -عند الصوفية- هو الذي يرفع الفرد لمرتبة الإحسان وبالتالي فالعلماء يرتقون لدرجات الإحسان بينما العوام من الناس يبقون في مرتبة الإسلام ، وهذا المفهوم الصوفي مفهوم باطل يتعارض مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه “رُبَّ أَشْعثَ أغبرَ مدْفُوعٍ بالأَبْوَابِ” وحديث أُسامَة رضي اللَّه عنه “قُمْتُ عَلَى بابِ الْجنَّةِ فَإِذَا عامَّةُ مَنْ دخَلَهَا الْمَسَاكِينُ” فهؤلاء قد يحملون من الإيمان ويتحقق منهم من الإحسان ما لا يتحقق من العالِم ، فمسالة الرتبة عند الله لا تحددها درجة علمية ولا قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بمقدار استقرار الإيمان في القلب و بمقدار تأثير ذلك الإيمان بما يدفع لإتيان العبادات وهجر المحرمات فهذا هو عين الإحسان الذي لا يحتاج لخصوصية خارقة للوصول إليها بل تراها متحققة بمجرد تحقق عبادات الجوارح بناء على استقرار الإيمان واليقين فيصبح الرجل تلقائيا من المحسنين فيتحقق مبدأ المساواة بين المؤمنين جميعا بلا تمييز ولا خصوصية لمؤمن حاز علما أو قوة على فعل وآخر ضعُف عن ذلك.

وهو مفهوم بدهي بسيط لا يلقى تعارضاً في نفس الإنسان ، ولم يسود الإسلام في أول عصره إلا بهذا المفهوم ، فلما قعَّدَ المقعِّدون وأصِّل المؤصِّلون واخترعوا مراتب الدين ووضعوا الإسلام مرتبة دنيا والإيمان درجة أعلى والإحسان حالة اسطورية لا يصلها إلا ثلة قليلة من الناس صار حال الناس على ما نراه اليوم من تشرذم وضياع عقدي واخلاقي لم ينجح العلماء والمصلحون في احتواءه ومعالجته.

 يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »