مَرَاتِبُ الدِّيْن ، مَفَاهِيْمُهَا فِيْ ضَوْءِ القُرْآنِ الكَريْم وَ السُّنّة المُطهَّرة (8)

مَرَاتِبُ الدِّيْن ، مَفَاهِيْمُهَا فِيْ ضَوْءِ القُرْآنِ الكَريْم وَ السُّنّة المُطهَّرة (8)

المطلب الثالث : حقيقة الدين وأصوله

 

وفي هذا المطلب سأعرض ما أراه توجيها صحيحا دقيقا متسقاً مع الآيات الكريمة كلها ويفصل فيما كان يظهر في المنظومة العقدية من خلل وتناقض بما تطمئن له النفس وتستقيم بتطبيقه المجتمعات الإسلامية ويصلح بإذن الله أمرها.

أولا : مفهوم الإسلام :

من أهم المهمات أن ندرك بأن معنى الإسلام (المجرد) في القرآن الكريم لا يعني الإخلاص لله والإنقياد له سبحانه بالطاعة على الإطلاق ، بل تحمل مفردة الإسلام المعنى التالي:

(الخضوع والطاعة والانقياد )

أيا كان المُسْلِمُ له ، فهناك من أسلم نفسه لله وهو مسلم لله ، وهناك من أسلم نفسه لهواه وشهوته ، وهناك من أسلم نفسه لحاكم أو لطاغوت أو للشيطان ذاته فهؤلاء جميعا مسلمون ذواتهم إلى شتى الآلهة والمتبوعين ، لذلك فإن المتتبع لمواضع استعمال فعل (أسلم) تجده دوما يكون متعدٍ بحرف جر ليوضح لمن يكون هذا الإسلام :

{ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ  عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة:1122]

فنجد تلازم بين الفعل ومستحق الفعل ونجد ارتباط الإحسان بالإسلام ولم يأت على ذكر الإيمان نصا لأنه تعدى بفعل الإسلام لله فتحقق الإيمان اصلا.

 

{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [البقرة:131]

 

فأتبع تلبية الأمر بالإسلام بمستحق الفعل وهو الله ليبين أنه أسلم لربه وليس لإله أو طاغوت.

 

{ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } [الزمر:54]

 

وهكذا فالرب سبحانه وتعالى لو سبق ذكره الإسلام فإنه يتبع أيضا بما يرده لمستحق الفعل.

وإذا لم تجد الارتباط بين الفعل ومستحقه بحرف جر فستجد ارتباط السياق والضمائر كلها تقود وتشير لمستحق الإسلام الذي يكون ذكره تعالى لازما في نص الآية ذاتها.

لذلك فلا يشترط أن يكون المسلم مسلما لله لأن الإسلام لله من نواتج الإيمان به تعالى فإن لم يتحقق الإيمان أولا فكيف يقبل الإسلام ؟ بدون إيمان ؟.

بينما نجد أن هناك دلالات أخرى لمفردة الإسلام عندما تكون لغير الله ، فتحمل صورة من صور الاستسلام للسلطة كما هو حال الأعراب

وهذا ما سأفصله فيما يلي من الصفحات بمشيئة الله.

 

حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان

إن هذه المصطلحات الثلاث مرتبطة ببعضها ارتباطا أفقيا وثيقا لا يمكن فصل أحدها عن البقية لأنها تشكل مركَّباً شرعياً لازماً لا يصلح بنقص أحدها أو غيابه أبدا ، ولو بدأنا في تصويب مصطلح مراتب الدين لأسميناه “أبواب الدين” فالباب الأول هو الإيمان.

أولاً : الإيمان : استقرار اليقين والاعتقاد بوجود الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

والإيمان عمل قلبي لازم ، لا يقبل عمل جارحة بدونه أبداً ، فكيف تُقبل صلاة أو صيام امرئٍ ينكر وجود الله أو يتشكك في كتبه وشريعته، أو لا يزال في تأرجح بين الإيمان ونقيضه ؟ وعليه فإن الإيمان باب يفضي لمنطقة الأعمال بل إن الأعمال يجب أن تؤدى بدافع الإيمان والخشية من غضب الله أو الطمع فيما عنده تعالى ونحن نعلم تمام العلم أن كل عمل بلا نية لا يقبله الله فالعمل القلبي مفتاح الدين كله وما قبل دخول هذا الباب باطل لا يعتد به.

ثانيا : الإسلام : تسليم النفس لله وحده بإتيان أوامره بفعل الطاعات وترك المحرمات ، وأوجه الطاعات وأولها أركان الدين الخمسة (الشهادتين ، الصلاة، الزكاة ،الصوم ، الزكاة، الحج لبيت الله لمن استطاع إليه سبيلا).

وهو : أداء العبادات المفروضة بفعل تحقق توحيد الله و الإيمان به والإقرار بأركانه.

وكل تلك الأعمال من اعمال الجوارح كما أسلفنا ولكنها لا تتقدم على أعمال القلب أبداً ، بل يجب أن تكون أعمال الإسلام ناتج من نواتج الإيمان فيكون إتيان الصلاة مرده الرغبة فيما عند الله والخشية من غضب الرحمن الذي سبق إيماننا به وبقدرته و باستحقاقه لتلك العبادة ، وطمعا في رضاه وجنته ومحبته ، وسوى ذلك هو عمل باطل لا وزن له ولا قيمة عند الله لأن العابد أتى العبادة بلا إيمان يدفعه لإتيانه فلم تصرف العبادة لله اصلا .

يقول تعالى :

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  ( 1 ) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( 2 ) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 3 )  فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ( 4 ) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( 5 ) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ( 6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( 7 ) الماعون

فترك أعمال الجوارح من الطاعات والامتناع عنها هو تكذيب بالدين لأنه يناقض الإسلام ، أما إن أتاها بقلب خالٍ من الإيمان فهو عين النفاق والرياء فتوعدهم الله جل وعلا فقال : فويل للمصلين  (أي أولئك الذين يؤدون الصلاة بلا إيمان فقط ليراها المؤمنون فيعدونهم منهم كأعراب المدينة ومنافقيها).

ثالثاً : الإحسان : هو الحالة التي يتحقق فيها الإيمان فيستنهض الجوارح للقيام بالطاعات وترك المحرمات.

فيكون هذا التعريف متسقا مع تعريف النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

وبمعنى آخر فإن الإحسان هو تحقق الإسلام الناتج عن استقرار الإيمان فالنبي صلى الله عليه وسلم بين هذه العلاقة بدقة حين قال :

(أن تعبد الله) أي يتحصل العمل (العبادة لله) وهو الإسلام (كأنك تراه) بوجود الإيمان وتحققه في قلبك (فإن لم تكن تراه) أي إن كانت الرؤية على وجه الحقيقة غير متأتية وهي كذلك (فإنه يراك) فرؤية الله لك أيها العبد على وجه الحقيقة متأتية لله ومراقبته لك دائمة.

إن عبادة الله كأنك تراه هو إتيان العبادات بقلب موقن بوجود الله مؤمن به ايمانا عميقا صادقا وكأنه من شدة إيمانه يرى الله رأي العين وإلا فإن الرؤية مستحيلة ولكن لتقريب المفهوم ، فأتى من يقسمها لمقامين ودرجتين ونوعين لأنه لم يدرك ولم يفهم ماهية الإحسان وكيفيته.

والإحسان ليس بمرتبة تختار الارتقاء إليها أو البقاء في مرتبة الإيمان كما يقال بل هو حالة لابد أن تتحقق في حياة المسلم طالما ادعى الإيمان بالله ، فالإيمان علامته تظهر على الجوارح بالعبادات ( الإسلام) وعندها يتحقق الإسلام لله وأما ما عدا ذلك فهو إسلام لغير الله فإما إسلام لحاكم أو سلطة ، أو إسلام لهوى أو شهوة ، أو إسلام لإله باطل ، أو رياء للتماهي مع المجتمع وإظهار الانتماء له ، وهذا في دين الله كفر ومروق من الدين.

وعليه فإن قوله تعالى :

{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:14]

لا يقصد به الإسلام لله الذي ينتج من تحقق الإيمان واستقراره بل استسلام لسلطة النبي صلى الله عليه وسلم خشية منه او طمعا في دنيا فكان نفاقٌ صِرْف لا يمكن أن يسمى اسلاما لله، ودليل ذلك في شطر الآية الثاني حيث يقول تعالى (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فلم تتحقق الطاعة منهم ولو تحققت فينبغي أن تشمل الإيمان أولاً كباب يُدْخِلُ المرء للاسلام وهو إتيان العبادات.

فاستعمال هذه الآية للدلالة على أن الإسلام المجرد من الإيمان هو المرتبة الأولى من مراتب الدين هو استعمال باطل وسوء فهم لحقيقة الإسلام.

إن المسلم لله هو المؤمن المحسن ، وفقدان هاتين الخصلتين لا يُبْقِيْ العبد في دائرة الإسلام عند الله أما عند الخلق فلا سبيل لهم على الناس فالله يتولى السرائر والنيات ويعلم فساد القلوب وصلاحها، وهو تعالى يقبل العمل أو يرده على صاحبه أما الناس فلهم ما ظهر دون البحث عما تخفي الصدور ، ولذلك كان المنافقون يعيشون بين المسلمين في المجتمع النبوي في المدينة مستسلمين لسلطة النبي صلى الله عليه وسلم بينما لم يسلمون لله تعالى وبرغم ذلك بقي أمر إسلامهم لله بينهم وبين ربهم وبقي حقهم وفق ما يظهرون للمسلمين من أعمال جوارح توهمهم بأنهم منهم.

أما الأعراب فأسلموا بأن أتوا من ظاهر العبادات ما يعصمون به دمائهم وأموالهم وتتحقق لهم المواطنة في دولة النبي صلى الله عليه وسلم فكان لهم ذلك :

في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل” أي فحسابه على صدق قوله بلسانه على الله فإن كان منافقاً يظهر الشعائر ويؤمن بلسانه بمالا يواطئ قلبه أو كان صادقاً يوافق إيمانه حقيقة مافي نفسه فهو سبحانه عليم خبير بعباده يحاسبهم بما لا يعلمه سواه ، فهو سبحانه أعلم بنفاقهم وأن إتيانهم للأركان الخمسة (أركان الإسلام) جعلهم مسلمين مستسلمين لسلطة الدولة ولكن غير مسلمين لله تعالى لأن الاستسلام لله يجب أن يكون بدافع الإيمان وليس بمعزل عنه.

إن ما نبينه من مفاهيم في هذا المطلب وما يتقرر من وصف بالإيمان أو الكفر يعني الفرد لا الجماعة فيجب أن يستقر لدى الفرد المسلم حقيقة الدين وأصوله فالعمدة على معرفة الفرد لنفسه وتقريره لتحقق الإيمان لديه من عدمه ، فإن وجد نفسه متهاونا في شأن العبادات والمنهيات فليستقر لديه أنه مفارق للإيمان لأنه لم يظهر على جوارحه إسلاما متحققا ، ولكن ذلك لا يتعلق بسواه فيسيغ لنفسه الحكم على الآخرين وتقرير ايمانهم من عدمه لأن ذلك محله القلب ولا يعلم غيب القلوب سوى الله تعالى.

إن ملة محمد صلى الله عليه وسلم ملة تعتمد في أصلها على النية فهي مدار صلاح العمل وفساده ، وبالتالي فالإسلام دين فردي في باب العقائد ولو كان جماعيا في باب العبادات ، فالمصلين بشتى أحوالهم يؤدون صلاة الجماعة لكن حقيقة الإيمان و النفاق عند كل فرد منهم متعلق بما يحويه قلب هذا الفرد لا ما يظهر من جوارحه وأصل ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)).

إلا أن هذه النية محلها القلب ولا يعنيك من أمرها سوى نيتك أنت أيها المسلم أما بقية الناس فلست في محل الحكم عليهم او تقرير أعمالهم وصحتها.

ودين الله متحقق بتوافر هذه الأركان الثلاثة في وقت واحد وما عدا ذلك فلا يتحقق الدخول في الدين ، فالإسلام (إتيان عبادات بدون إيمان) نفاق واستسلام لغير الله ، والإيمان (الإقرار بوجود الله تعالى) بدون إسلام له بإتيان العبادات العملية هو كفر بلا شك وهناك أمثلة كثيرة من كتاب الله على استقرار الإيمان في النفس واجتماعه مع الجحود في نفس الوقت يقول تعالى:

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)  [النمل:14]

فتحقق الإيمان عندهم ولكن لم يتحقق الإسلام ، وهنا وجب التفريق بين هؤلاء وبين الذين يتناقص الإيمان عندهم فيحصل التقصير في الإسلام (العبادات) ويتراوح حالهم بين اعتلاء الإيمان في القلب وذبوله.

ويقرر اللهُ لعبادهِ قاعدةً هامة وهي أن من أتى شيئا من أركان الإسلام فلا يجوز الحكم عليه بعدم الإيمان لأنه مسألة قلبية ، وأن هذه الأركان التي تؤتى بالجوارح تعصم دم المستسلم ، فيقول تعالى :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)   [النساء:94]

فقد ألقى إليكم السلام فكان مستسلما لسلطتكم ودخل في عداد من عصم دمه وماله وعرضه منكم برغم الشك الريبة في حاله وأنه لم ينطق الشهادة أو يأتي أعمال الجوارح الظاهرة إلا خشية القتل أو رغبة في منفعة ، وهنا قد يدخل في زمرة المؤلفة قلوبهم والذين يرجى أن يهديهم الله للإيمان به وبالتالي الاستسلام والإسلام لله تعالى بدافع اليقين والإيمان وليس استسلاماً لسلطة أو دولة.

وهذا سليمان عليه السلام يدعو بلقيس وقومها للاستسلام لسلطانه وملكه فيقول تعالى:

( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)   [النمل:31]

وهنا فلدينا بعدين هامين مررنا عليهما مراراً ، البعد الأول هو تعريف المسلم بالنسبة للمجتمع المسلم وهنا نقول أن كل من أتى العبادات البدنية وادعى الإسلام فهو معصوم الدم لا يشق عن قلبه شاق ، والبعد الثاني هو المسلم بالنسبة لله (من أسلم لله) فهذا قد بلغ علو الدرجات لأنه أتى العبادة مدفوعا باستقرار الإيمان ، وجملة هذا الفعل هو الإحسان ، فإن أردنا أن ننشئ أبنائنا ونعلم من استرعانا الله عليهم وجب أن نعلمهم كيف يسلمون لله تعالى ونقرر لهم بأن هذا هو الإسلام الحقيقي وليس قيادتهم للاستسلام لسلطة المجتمع الإسلامي وإتيان العبادة فقط وان هذا هو الإسلام.

قد يقول قائل : ولكن الله فرق بين المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات مما يدل على صحة مفهوم التراتب فقال تعالى :

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب:35]

نقول هذا قول غير سديد ، فالإتيان بتلك الصفات كان على سبيل الجمع وليس الإفراد ، فالثناء هنا على جملة من توافرت فيهم تلك الصفات وليس على من توفر فيه جزء منها ، فمن لم يحفظ أو من لم تحفظ فرجها فلا تدخل في الآية لأن تفريطها يحمل دلالة انتفاء الإيمان أصلاً فلا وجه للقول أن هناك تفريق في هذه الآية وإلا فما فائدة جمعها في آية واحدة ؟ لننتقي منها ما نشاء فندخل في أهل الثناء ؟ لا شك بأن ذلك غير متحقق فالسياق يحمل الامر على إجماله ، بل إن هذه الآية تؤيد ما نذهب إليه ، فجمع الله الإيمان والإسلام مع عدد من الصفات الأخرى كشروط مجتمعة تحقق شرط الآية بحصول المغفرة والأجر العظيم.

 

شعب الإيمان

يتردد على مسامع المسلمين حديث شعب الإيمان الذي لم أقع على من فصل مفهومه تفصيلاً عملياً يحقق مفهوم الارتباط بين الإيمان  والعمل على ماله من أهمية بالغة في توضيح وبيان أصل هام من أصول الدين وهو الإيمان وماعلاقة هذه الشعب بالإسلام وماعلاقتهما بالإحسان وأين بقية الشعب السبعون التي لا يفقه الناس منها الا لا اله الله أعلى شعبة وإماطة الأذى عن الطريق أدنى شعبة والحياء شعبة من الإيمان  ، وما هو الأساس والمرجع لمن استنتج تلك الشعب وقرر أنها هي ما يقصده الشارع الحكيم ؟.

وفيما يلي سيثبت لنا بأن هذا الحديث يعزز مفهوم أبواب الدين بالصورة التي ذكرناها ويتفق مع حديث جبريل و يتلازم معه دلاليا بوضوح تام.

لماذا سميت شعباً ؟؟ وكيف تكون كذلك والإيمان عمل قلبي وشعبه أعمال جوارح ؟؟ لماذا لم يتحقق الفهم السليم المتفق المتسق مع حقيقة الحديث وارتباطه بأصول الدين وقواعده الكلية ؟؟ ، ولنبدأ باستعراض الحديث الشريف الذي يدور عليه هذه المفهوم:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ))

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، أَعْلَاهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان» . متفق عليه.

والحقيقة أن هذا الحديث -كما اسلفنا- هو أقوى دليل على صحة ما ذهبنا له وبطلان القول بمراتب الدين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم عدد أعمال جوارح كنطق الشهادتين ، وإماطة الأذى عن الطريق ، والحياء ونحو ذلك من بقية الشعب عددها كشعب إيمان وهنا يستقر لدينا مفهوم الإيمان والعلاقة بينه وبين الإسلام والإحسان .

فالتمثيل والتشبيه هنا شديد البلاغة ، فبذرة الشجرة التي لا يراها الناس وتكون مختفية تحت التراب توازي الإيمان المختفي في قلوب المؤمنين ، ونتاجها هو أعمال الجوارح من العبادات والأعمال المختلفة ومنها اركان الإسلام توازي شعب الشجرة النابتة من تلك البذرة ، فكانت صورة عظيمة توضح كيف أن أعمال الجوارح (الإسلام) إنما هو نابتة من بذرة الإيمان فكان الإسلام شجرة مثمرة كلما زادت شعبها كانت أقوى وأنضر.

وقد تتبعت شعب الإيمان المختلفة من خلال كل آيات كتاب الله التي تأمر المؤمنين بفعل أو تنهاهم عن فعل ، وكذلك كل الأعمال التي يحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر المؤمنين باتباعها و سأعدُّها مع أدلتها في ذيل هذا البحث بإذن الله.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مشاركة

مقالات اخرى

ذو القرنين الذي أتاه الله من كل شيء سبباً (1)

كتبه : زائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاه والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء ذكر ذي القرنين في سورة الكهف كجواب على أسئلة اليهود الثلاث التي أمروا كفار قريش أن يسٱلوها النبي كتحدي له وتعجيز فسألوه عن : الروح وعن فتية ذهبوا في الدهر الاول

المزيد »

دَعْوى مَشْرُوْعِيّة مُتْعَةُ النِّسَاء

  في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24 [النساء] القائلون بوقوع

المزيد »